أعجبه لون الشاي الزاهي في كوب صديقه، فلم يتمالك نفسه حتى طلبه منه، فلما رشف منه، فإذا هو مر! قد تكون هذه هي حقيقة ما نتمناه في أيدي الآخرين. نعم.. الآخرون الذين ربما نفقد الاستمتاع بما وهبنا الله من النعم، بسبب النظر إلى ما في أيديهم، وتمني أن نكون مثلهم، أو نحيا مثل حياتهم. وربما حقيقة أمرهم مختلفة تماماً عما تبدو لنا. بل ربما تكون أمانينا، التي تنغص علينا حياتنا، ونشعر عند عدم تحققها أن في حياتنا شيئا لم يكتمل بعد، وأن في أفواهنا مرارة، وفي أعيننا عبرة، هي محل هلاكنا وبؤسنا، ولو حققها الله لنا لكنا بها أشقياء. أتذكر أولئك النفر، في قصة قارون الذين تمنوا أن يكونوا مثله فقالوا: ((يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ))، لكن لأن القصة اكتملت وكشفت عاقبته، علمنا أنهم أحظ منه إذ لم يعذبوا، ولو أن الله حقق أمنيتهم لكان مصيرهم كمصيره، فكانت عاقبة أمرهم بعد ذلك أن قال الله عنهم: ((وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)). كم هي قصة عظيمة وذات عبرة؟! تقول لنا: حياتك أجمل من حياة الذين تتطلع إلى ما في أيديهم. وتقول لنا أيضاً: لو كشفت لكم الأقدار ورأيتم عواقب ما تتمنون، لعلمتم أن عدم تحققها يعني أن الله يحميكم حتى من أمانيكم. نحن نفتقد لذة الموجود الذي بين أيدينا، أتدري لماذا؟! لأن أعيننا على غير الموجود. إنها عين الطمع، المصابة دوماً بطول النظر، فلا تُحسن أن ترى القريب منها، ويبدو عليه غشاوة. لكنها تُبصر بشكلٍ جيد البعيد منها. نفوسنا التواقة لكل شيء، والمتطلعة أن تحوز حتى على ما يبدو مستحيلاً، هي من أسباب تعاستنا وحزننا. حياتك رائعة وجميلة، وقد تكون أنت وكافة النعم والمواهب التي حباك الله بها، محط نظر الآخرين، ومحل أمنيتهم. لكنك مشغولٌ عن نفسك بغيرك. الزهد في الدنيا وحطامها، ومعرفة حقيقتها يحمل كثيراً من معاني السعادة. فإذا كانت الدنيا وكل مباهجها وزينتها ليست شيئاً عند الله، فما بالنا في بعض فتاتها، الذي ذهبت أنفسنا عليه حسرات. لن يعيد لعينك توازنها ويخلصها من آفة الطمع الذي يجعلها ممتدة، إلا أن تعرف حقيقة الدنيا، ففي الزهد معانٍ سامية تجعل النفوس أكثر اطمئناناً وأقل ألماً. من الخير لهذه العيون الممتدة والمبصرة لكل شيء إلا لما بين أيديها، أن تقصُر ((وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)). الأماني لا تأتي غالباً إلا مقرونة بالندم والحسرات، ذكر الله في كتابه العزيز شيئاً من ذلك: ((إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)) ((فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))، ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا)). والأماني المجردة والتطلع لما ليس بيديك ولا ملكاً لك، فوق أنه يحرمك من الاستمتاع بما وهبك الله إياه، إلا أنها - أيضاً - لا تجلب لصاحبها ما يريد ويتمنى ((وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)). فلم تكن أمانيهم فقط كافية لأن يكونوا من أهل الجنة!. فهي شعور سلبي على كل حال يجب التخلص منه، حتى تصفو لنا الحياة من حاولنا. يا هذا.. خفِّف من قلقك وتوترك، فالذي ذهبت نفسك عليه حسرات، لو تحقق، لاكتَشَفْت أنه لم يكن يستحق كل ذلك الألم والترقب. فكل الأشياء تبدو جميلة ورائعة، حتى نمتلكها، فإذا ببريقها يخفت ولونها يبهت. في كل مرة يمتد فيها بصرك متمنياً ومتطلعاً، لن يعود ومعه ما أردت ورغبت، بل سيرتد إليك بصرك بالألم والحزن الذي سينفذ إلى قلبك. فخيرٌ لنا أن ننظر في نعم الله علينا، ونردد: أَكُلُّ هذا لنا؟! بدل أن نردد دوماً: يا ليت لنا!.