ظاهرة الارهابيين الأوروبيين الملتحقين بداعش تؤرق المجتمعات الاوروبية، وتستنفر الاجهزة الامنية، وعلامات الرقابة أصبحت تؤثر على الحريات، لكن الكل يجمع على ضرورة الأمن، لكن السؤال من يقوم بأعمال التجنيد لصالح داعش، كيف يتم الاتصال عبر وسائل الاتصال الجديد، ولماذا يذهب الاوروبيون للارهاب، وهم مجتمعات أكثر تقدما ومدنية ورقيا من ناحية اقتصادية؟ كانت البداية مع حالات منعزلة، في هذه الدولة الأوروبية أو تلك، أيام البدايات الأولى لأحداث «الفتنة العربية» المسماة «ربيعاً عربياً»، في نسختها السورية تحديداً، ولكن مع مرور الأشهر، وتورط علماء في دعم «الجهاد» هناك، (القرضاوي والعريفي نموذجاً)، وتضافر عوامل محلية ودولية وطبعاً دينية، أصبحنا أمام ظاهرة مجتمعية تؤرق جميع صناع القرار في القارة العجوز. ظاهرة «الجهاديين الأوروبيين» الذين تكاثر عددهم بشكل مهول خلال السنتين الأخيرتين، إلى درجة عقد العديد من المؤتمرات واللقاءات الأمنية عالية المستوى من أجلها، سواء أكانت بين المسؤولين الأوروبيين أنفسهم، أو بين المسؤولين الأوروبيين والعرب (وخاصة اللقاءات التي تمت هذه السنة مثلاً في لندن، باريسولندن وبروكسيل)، من باب المساهمة أولاً في التفاعل العملي مع هذا الفائض الديني، في نسخته «الجهادية»، والتفكير الجماعي في سُبًل التخلص منه بأقل الأضرار سواء عبر الإدماج أو الطرد أو شيء من هذا القبيل. وما دمنا نتحدث عن ظاهرة يختلط فيها العامل الديني بالأمني، والسياسي بالمجتمعي، من الصعب، حتى نقول من سابع المستحيلات الحسم في عدد «الجهاديين الأوروبيين» بالضبط، ولكن من المؤكد أو المجمع عليه على الأقل، أن عدد هؤلاء، وباعتراف صانعي القرار في أوروبا، فإن الرقم المتداول حالياً، تجاوز سقف 3000 «جهادي»، بإقرار المنسق الأوروبي لمكافحة الارهاب جيل دو كرشوف [Gilles de Kerchove]، حسب مضامين متابعة يومية «الزمن» [Le Temps] السويسرية (عدد 23 سبتمبر/ أيلول الماضي). ما يهمنا أكثر في التفاصيل المصاحبة لهذا الإقرار الأوروبي الرسمي، ولكن «خبطة» إعلامية عابرة حول ظاهرة فردية، كما تعودنا على ذلك خلال السنين الأخيرة، في معرض التفاعل مع بعض الحالات المحسوبة افتراضيا على ظاهرة «الذئاب الفردية»، هو إقرار ذات المسؤول أن عدد «الجهاديين» الأوروبيين الذين توجهوا إلى سورياوالعراق للقتال سجل ارتفاعاً ليصل إلى الرقم سالف الذكر، بعدما كان أعلن في يوليو/ تموز الماضي أن عددهم يناهز الألفين. وثانياً، تأكيده أن معظم هؤلاء المقاتلين يأتون من فرنساوبريطانياوألمانيا وبلجيكا وهولندا والسويد أو الدنمارك، وأن القليل منهم يأتي أيضاً من إسبانيا وإيطاليا وإيرلندا وأخيرا النمسا؛، وأخيراً، إقراره بأن ما بين 20% الى 30% من هؤلاء الرعايا أو المقيمين الأوروبيين عادوا إلى بلدانهم. بعضهم عاود حياته العادية واخرون يعانون من اكتئاب ما بعد الصدمة في حين يشكل جزء متشدد منهم تهديدا لتلك البلدان. عدد صادم القول الفرنسي المأثور الذي جاء فيه «الشياطين تكمن في التفاصيل» ينطبق باقتدار على تصريح المسؤول الأوروبي الأول على ملف الإرهاب، بما يتطلب التوقف بالأرقام والشهادات عند مقتضيات بعض تفاصيل هذا التصريح. نبدأ بالارتفاع المهول لعدد «الجهاديين» الأوروبيين في غضون بضعة أشهر فقط، من السنة الجارية، من 2000 إلى 3000 «جهادي» شدّوا الرحال إلى العراقوسوريا، من أجل الانضمام إلى تنظيم «داعش» على الخصوص، وبدرجة أقل باقي التنظيمات الجهادية، على اعتبار أن هذا الرقم المرتفع، يأتي موازاة مع صعود نجم «ظاهرة داعش» من جهة، وإعلان «الخليفة» الافتراضي للتنظيم، عن قيام ما اصطلح عليه ب «دولة الخلافة»، وانخراط التنظيم، عملياً، وليس افتراضيا، في ما «تطبيق الشريعة» و «تطبيق الحدود»، بكل الأحلام والتطلعات المصاحبة لهذه المشاريع، وتأثيرها على شباب أوروبي مسلم، وقع تحت تأثير وإغواء هذا المشروع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو يعيش واقعاً اجتماعياً مؤرقاً، يُساهم بشكل أو بآخر، في تغذية عوامل الانحراف (لقد تأكد، على سبيل المثال لا الحصر، أن «الجهادي» الفرنسي الذي أطلق النار في المتحف اليهودي في بروكسل في 24 مايو/ آيار الماضي، عاد من سوريا، وقد انخرط في الإسلام المتشدد في السجن حيث حُكم سبع مرات من 2004 إلى 2009 وخصوصاً لارتكابه عمليات سرقة عنيفة، أي إنه قادم من عالم الانحراف). فوق هذه المحددّات، يمكن أن نضيف عوامل خارجية، لا تخدم مشروع «التخلص» من «الفائض الديني» الأوروبي في نسخته «الجهادية»، وفي مقدمتها السياسات الغربية تجاه العديد من القضايا العربية الإسلامية. وحتى لا نتيه مع كثرة التفاصيل، وتأكيد مدى التعقيدات الميدانية التي تغذي الحيرة الأوروبية في التعامل مع هذا «الفائض الديني»، نتوقف عند حالة نموذجية واحدة، وتداعياتها على أحداث الساعة، عند استحضار الرقم الرسمي الذي أعلن عنه المسؤولون الأوروبيون، أي رقم 3000 «جهادي» أوروبي، ولو أن نموذجنا التطبيقي، «تخلصت» منه القارة الأوروبية، ولكنه مهدد بالعودة للديار الأوروبية، ولا توجد ضمانات تصب في أن يكون حظ هذا النموذج يدرج في خانة 20 % و30 % من هؤلاء «الجهاديين»، من الذين عادوا إلى بلدانهم، أي عاود هؤلاء حياتهم العادية، أو التعرض لمعاناة من اكتئاب ما بعد الصدمة (بما يتطلب مواكبة نفسية ودينية)، أما الباقي، ممن لا يتأكد مقتلهم في الساحة السورية والعراقية، فمن المؤكد، وبإقرار الأمنيين الأوروبيين من جهة، وشهادات «الجهاديين» أنفسهم، يُجسّدون تهديداً مباشراً للقارة الأوروبية. نموذج تطبيقي النموذج الذي نشتغل عليه، توقفت عند ملامحه وحيثياته بالتفصيل والشهادات والصور يومية «لوموند» الفرنسية الشهيرة، إلى درجة أنها جعلت منه ملفاً «احتفالياً» من باب التحذير من الخطر القادم مع «الفائض الديني» الأوروبي، في نسخته «الجهادية» دون سواه. حديثنا عن حالة «الجهادي» مايكل دوس سانطوس، فرنسي من أصل برتغالي، والذي أصبح بقدرة قادر، يُلقب ب «أبي عثمان»، شاب فرنسي، اعتنق الإسلام منذ العام 2009، كان كاثوليكيا ملتزماً، قبل أن يعتنق الإسلام، ولكن عبر البوابة «الداعشية». عدد «لوموند»، والصادر يوم الجمعة 21 نوفمبر/ تشرين 2014، تضمن بعض إشارات إلى الحدث: صورة للمعني، في الغلاف، وهو يرفع السبابة، نقلاً عن صفحته على موقع «تويتر». الأرقام شبه الرسمية تتحدث عن حوالي 19 أو 20 في المائة من «الجهاديين» الفرنسيين الذين يقاتلون اليوم في العراقوسوريا، هم حديثو العهد بالإسلام، ومايكل دوس سانطوس منهم. الإشارة الثانية جاءت من خلال استطلاع مطول عن مسار الشاب المتحول، ونقرأ في نفس الاستطلاع بعض الشهادات التي تحيلنا على أزمات الجهاز المفاهيمي للتديّن «الجهادي»، منها، أن أبا عثمان (مايكل دوس سانطوس)، ومباشرة بعد اعتناقه التديّن «الجهادي» أصبح يرفض الجلوس في طاولة الطعام مع أسرته، بل طالب العائلة باعتناق الإسلام. لم يكن للأجهزة الأمنية الفرنسية أن تتابع مسار الرجل وتتعامل مع الموضوع بجدية أكبر ما دام الأمر لا يتعلق فقط بمايكل دوس سانطوس لولا أن مضامين «تغريدة» حرّرها في «تويتر»، مفادها دعوة «كل الإخوة ["الجهاديين"] المقيمين في فرنسا لقتل أي مدني»: إنه بيت القصيد وراء الإشارات الأربع التي جاءت في اليومية الفرنسية، ووراء المتابعة الإعلامية الكبيرة للحدث، هناك في المجال التداولي الفرنسي. نأتي للإشارة الثالثة والأخيرة، وهي إشارة مهمة جداً وتهم كل من يُحرر في الحالة الداعشية،وجاءت بقلم جان لوك ماري، Jean-Luc Marret وهو خبير في الظاهرة، وهو أيضاً، مؤلف كتاب «تواريخ الجهاد»، بالتنسيق مع ميشيل غيران Michel Guérin. مشروع معقد الحسابات أورد الباحث مجموعة من النماذج التفسيرية التي يمكن أن تساعدنا على/ في قراءة الظاهرة، وأهمية هذه القراءة، أنها تعلو على القراءات الاختزالية السائدة كونياً، فالبعض يختزل الأمر في العقيدة، والآخر في البعد الاجتماعي أو الأمني، وهكذا دواليك. أورد الباحث بعض هذه النماذج، منها «السؤال الديني/ الإسلامي» كدين يحث على العنف، وهذا خطاب مُروج لدى بعض الأصوات الغربية المتطرفة كما هو معلوم، ومنها «السؤال المجتمعي» (قضايا العزلة، والإقصاء، والبطالة.. إلخ)، ومنها «السؤال الطائفي» لدى المنظومة «الجهادية» ككل، وأنه في هذه الحالة على الدولة الفرنسية أن توظف آليات مضادة للطائفية، على غرار ما قامت به سابقاً مع مجموعة من التيارات. كما اشتغل الكاتب على خلاصات مجموعة من الدراسات حول الحالة «الجهادية»، والتي أفضت إلى وجود عوامل أخرى معقدة، منها غياب تقدير الذات، والتضامن مع وضع الأمة الإسلامية التي توجد في موقع المضطهد، وغيرها من العوامل. هذا غيض من فيض، ومنذ أيام قليلة فقط، وبموازاة مع اعتقال 4 أشخاص في بريطانيا للتحقيق معهم بشبهة التحضير لعمل إرهابي، وما تزامن معه من رفع لدرجة التأهب الأمني، أغلقت السلطات الألمانية مسجداً بسبب قلاقل الظاهرة «الداعشية»، وهي القلاقل التي جعلت حوالي 400 متشدد يخرج في مظاهرة قبيل حادث الإغلاق، في إطار تضخم «الذات الدينية» ضد مجموعة من الأكراد (كما لو أن السيناريو المرعب في العراق والشام، يريد أن يتكرر، هنا في ألمانيا)، إلى درجة حديث بعض وسائل الإعلان هناك عن «انفجار حرب مقدسة» (في مدينة هامبورغ بالتحديد). بالنتيجة، الحيرة الأوروبية بين احتضان أو التخلص من هذا «الفائض الديني»، تتطلب بداية الاعتراف بأن النزعة الدينية «الجهادية» (سواء كانت مُجسّدة في «القاعدة» أو «داعش» أو غيرها من «الجهاديات»)، تتطلب اليوم الانخراط في حرب طويلة الأمد، يختلط فيها ما هو ديني بما هو سياسي ومجتمعي وأمني، وقودها مراهقون سقطوا ضحية «اختطاف الإسلام» من أهله، بسبب تقاعس المؤسسات الدينية، وغَلَبَة عقلية الغزو والغنيمة على مشاريع «اختطاف الإسلام»، وتساهم في تغذيتها السياسات الغربية من جهة، وأحوال نفسية وشخصية لهؤلاء الضحايا من جهة ثانية.