ثمة أمر ما زال يربك المؤسسات الامنية الغربية، يتمثل في المواصفات والإمكانات الفنية والتقنية لدى جيش داعش الالكتروني، لكنها في نفس الوقت تربط ما بين كتيبة الدفاع الالكتروني الايراني التي تحط في سوريا من بداية الازمة هناك، مما يؤكد وجود لعبة استخباراتية تساهم في تعزيز امكانات التنظيم الاعلامية والتأثيرية. وعليه فإن علاقة تنظيم «داعش» ووسائل التواصل الاجتماعي تحيلنا على علاقة الحركات الإسلامية «الجهادية» بمواقع الإنترنت في حقبة ما بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، حيث كان على صناع القرار في العالم بأسره، انتظار هذا المنعطف الدموي، بحيث يأخذون بعين الاعتبار تبعات التوظيف «الجهادي» للمواقع الإلكترونية في استقطاب الأتباع والمرشحين الافتراضيين للانضمام إلى «الجهاديات»، وفي مقدمتها حينها، تنظيم «القاعدة». كما لو أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بشيء أسوأ مما مضى، لأنه تأكد بالدراسات النظرية من جهة، وبالوقائع المادية الملموسة من جهة ثانية، أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، يفوق بكثير تأثير مواقع الإنترنت. وما زال المتتبع يتذكر أنه مباشرة بعد ذلك المنعطف، ومعه لائحة عريضة من الاعتداءات الإرهابية التي طالت دولا عربية وإسلامية (السعودية، تونس، المغرب، تركيا، الأردن، إندونيسيا..) اندلعت «حرب افتراضية» بين الأجهزة الأمنية و«المتطرفين»، استهدفت على الخصوص توظيف معطيات وبيانات هذه المواقع من أجل استباق أي اعتداءات إرهابية (فيما اصطلح عليه بالحرب الاستباقية، على الأقل في شقها الافتراضي على شبكة الإنترنت)، واستهدفت في اتجاه آخر، قصف هذه المواقع، وهي العملية التي تلاها إطلاق مواقع «جهادية» بديلة أو مضادة، بل وصل الأمر عند «المتطرفين» في ذروة «أسلمة البراغماتية» إلى استغلال صفحات ومواقع محسوبة على الجنس والدعارة، في سياق توظيف كل ما يمكن توظيفه من أجل تمرير استقطاب الأتباع ازدادت الأمور تعقيداً مع تنظيم «داعش» لسببين اثنين، ضمن أسباب أخرى: أولهما أنه تنظيم يُمثل حتى حدود اللحظة أخطر التنظيمات الإرهابية المحسوبة على الساحة الإسلامية، إلى درجة أنه أصبح صعباً على العامة والخاصة توقع ظهور تنظيم «جهادي» جديد من فرط تطرف الداعشيين؛ وثانيهما أن تنظيم «داعش» جاء في حقبة رقمية تتميز بفورة في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يخدم مشروعه الاستقطابي أكثر بكثير من زمن تنظيم «القاعدة» على عهد أسامة بن لادن مثلاً. ومن باب التذكير بالآثار الخطيرة التي يمكن أن تتسبّبَ فيها وسائل التواصل الاجتماعي، يكفي استحضار دور هذه الوسائل في فتنة «الفوضى الخلاقة» عربياً، والتي اصطلح عليها بأحداث «الربيع العربي»، حيث تأكد أنه تم استغلال الشباب العربي، في هذه الدولة العربية أو تلك، سنوات قليلة قبل تاريخ 11 كانون الثاني/ يناير 2011 (تاريخ اندلاع الأحداث)، لتدريبهم وتأطيرهم على القيام بدور سياسي أكبر مما كانوا يتوهمون أنهم يقومون به، وهذا ما لخصه باقتدار المفكر الأردني فهمي جدعان في كتابه الأخير: «تحرير الإسلام» (2014) عندما اعتبر أن أحداث الحراك انتهت ب«تحقيق أهداف ليست هي تلك التي نهضت من أجلها». غزو «داعشي» لوسائل التواصل الاجتماعي تأسيساً على المعطى، نخلصُ مثلاً، إلى تواضع حضور الخطاب الداعشي في مواقع الإنترنت، مقارنة مع فورة ذات الخطاب في وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة في «الفيسبوك» و«تويتر»، ويكفي إلقاء نظرة خاطفة أو بحثية على ما تعج به هذه الوسائل بالذات من فورة في هذا الخطاب، حتى إن العديد من الإعلاميين، بل الباحثين أو الأجهزة الأمنية، يتابعون هذه المواقع من أجل معرفة مستجدات الساحة، ومن أجل توظيف ما يمكن توظيفه في سياق حرب استقطاب ودعاية، بكل التبعات السياسية والاستراتيجية المرتبطة بها في المنطقة. ولا يقتصر الأمر فقط على استقطاب النشاط الافتراضي من المنطقة العربية، بل يصل الأمر إلى استقطاب كل المتعاطفين والنشاط في خارج الدائرة العربية، والذين تبين أن خطورة هؤلاء، لا تقل عن خطورة الداعشيين العرب، سواء تعلق الأمر بالداعشيين القادمين من أوروبا أو حتى من أستراليا (التي اعترفت وزيرة الخارجية هناك بأن رقم «الجهاديين» الذين شدّوا الرحال إلى سورياوالعراق، ناهز 150 ناشطاً جهادياً). وعلى ذمة إليان مرصود، الرئيس السابق للمركز الفرنسي لمكافحة الإرهاب، (والذي أحصى ما بين 800 و1000 مقاتل (جهادي) فرنسي موجود حالياً في سورياوالعراق)، فقد أصبحت شبكة الإنترنت وسيلة رئيسة للتجنيد خاصة للمتحولين دينياً، مدققاً في أن أغلبهم ينتمون إلى «عائلات فرنسية في وضع انهيار اقتصادي واجتماعي، وغالبيتهم من ضواحي المدن ومن العاطلين عن العمل. وبما أنهم ليس لديهم ما يخسرونه، يفكرون في الانضمام إلى القتال في سورياوالعراق ويقومون بتمويل رحلتهم من خلال التعويضات العائلية التي توزعها الدولة الفرنسية». وفي ثنايا التحقيق الذي نشرته الصحافية كلاريسيا جان ليم في موقع (bustle) تم التركيز بشكل جلّي على دور وسائل التواصل الاجتماعي في استقطاب الغربيين معتنقي الإسلام الجدد للانضمام إلى «داعش»، وليس صدفة أن تكون صورة مرفقة بالتقرير خاصة بموقع «تويتر» تحت عنوان فرعي صريح: وسائل التواصل الاجتماعي، ويتوقف التقرير عند تفوق واضح للداعشيين في التعامل مع وسائل الإعلام عموماً و«تويتر» و«الفيسبوك» بالتحديد، إلى درجة تغييب الحديث عن جبهة النصرة، التي كانت تنعش الحدث الإعلامي في بداية المعارك بين النظام السوري والمعارضة. (التحقيق مؤرخ في 3 تشرين الثاني: نوفمبر الجاري). صحيح أن التحقيق توقف عند عوامل أخرى تقف وراء هجرة هؤلاء إلى سورياوالعراق، للانضمام إلى «الجهاديين»، وفي مقدمتهم «داعش»، ومن بين هذه العوامل، نجد مثلاً، قلة البضاعة الدينية، أو حالة التهميش الاجتماعي، تلك أشار إليها ذمة إليان مرصود، المسؤول الأمني الفرنسي، ولكن هذه العوامل، جاءت ثانوية في ثقل التأثير والاستقطاب مقارنة مع دور وسائل التواصل الاجتماعي، أولاً وأخيراً. المراهقون: الفئة الاجتماعية الاكثر استهدافاً «المشروع الداعشي» يراهن أيضاً على استقطاب فئة عمرية معينة، وهي فئة المراهقة بالتحديد، حيث ضعف المناعة الدينية والفكرية، وهي حالة الضعف التي تقوم وسائل التواصل الاجتماعي باستغلالها من أجل الاستقطاب وبالتالي شد الرحال نحو الديار السورية والعراقية، وهذا ما تأكد مادياً في العديد من الحالات الأوروبية، مسّت على الخصوص مراهقين ومراهقات، اتضح أنهم سقطوا ضحية مضامين دردشات ونقاشات في «الفيسبوك» أو «تويتر»، بعضهم شد الرحال فعلاً إلى العراقوسوريا، وبعضهم تم إيقافه أو منعه، والبعض الآخر، ما زال تحت المراقبة الأمنية (نتحدث بالتحديد عن الساحة الفرنسية والبلجيكية والبريطانية والألمانية). بين أيدينا نموذج تطبيقي حديث زمنياً، حيث أُفرج عنه إعلامياً منذ بضعة أسابيع فقط، ويتعلق بحالة مراهقة فرنسية بيت القصيد من أصول عربية، اسمها «آسية السعيدي (15 عاماً)»، تحولت اليوم إلى أشهر مراهقة يجري البحث عنها في فرنسا بعد أن غادرت بيت عائلتها في مدينة «فيلفونتين» في الجزء الجنوب الشرقي من فرنسا بهدف التوجه إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم «داعش»، حيث وضعت السلطات الفرنسية كل أجهزتها الأمنية في حالة استنفار للوصول إلى المراهقة التي لا تزال على ما يبدو داخل التراب الفرنسي تتحين الفرصة المواتية للسفر إلى تركيا ومنها إلى سوريا بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية. أهمية تسليط الضوء الإعلامي في فرنسا على حالة هذه المراهقة، مردها معطيان اثنان على الأقل: أولاً، التحذير من إغراءات وسائل التواصل الاجتماعي في استقطاب المراهقين، ونقرأ لماثيو بوريت مدعي عام مدينة فيين الذي يتولى شخصياً متابعة الملف (حسب قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية) أن «الفتاة المراهقة هربت من منزل عائلتها بغرض التوجه للمشاركة في أعمال الجهاد في سوريا وقد كتبت ذلك علانية على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» كما أنها كانت على تواصل مستمر مع أفراد شبكات تجند مقاتلين للذهاب إلى سوريا عبر مواقع التواصل ما سمح للمحققين بتحديد أسباب اختفائها المفاجئ، خاصة بعد دخولهم إلى حسابها على موقع فيسبوك وفحص الرسائل الواردة اليها والمحادثات الفورية التي أجرتها مع بعض أفراد الشبكات، وهذا أظهر للسلطات وجود طموح لدى المراهقة بالسفر إلى سوريا». وثانياً، التغطية على فشل الأجهزة الأمنية خلال الشهور الماضية في منع مراهقات ومراهقين من السفر إلى سوريا بهدف المشاركة في «الجهاد»، ويحدث هذا بالرغم من تشديد الحكومة الفرنسية لقوانين السفر الخاصة بالمراهقين، حيث بات لا يسمح لهم بمغادرة الحدود الفرنسية دون وجود ترخيص من أولياء أمورهم. يبدو جلياُ اليوم، أن مواجهة الحركات الإسلامية «الجهادية»، وفي طليعتها تنظيم «داعش» لن تقتصر فقط على مواجهة ميدانية مباشرة ومفتوحة على كافة الاحتمالات ولا المواجهة الفكرية والعلمية، فهذه مجرد جبهات «حربية» ضمن جبهات أخرى لا تقل أهمية، إن لم نتحدث عن جبهات أكثر خطورة وفاعلية، وفي مقدمتها جبهة مؤرقة ومعقدة تحمل اسم «الاشتباك في وسائل التواصل الاجتماعي»، بالنظر إلى فورة الحضور «الداعشي» في هذه المواقع، وبالنظر إلى التأثير الكبير والخطير الذي أحدثته سياسياً وأمنياً على المنطقة العربية خلال السنين الأخيرة، عبر بوابة «الحراك العربي» بالأمس، وأبواب «الحراك الجهادي» اليوم.