يبدو أنه لكل حقبة زمنية في الوطن العربي والعالم الإسلامي أعطابها الدينية الخاصة التي تتطلب معالجات خاصة، قد يختلط فيها البعد السياسي والديني والاقتصادي وكذلك البعد البحثي أو العلمي الصرف الذي يساعد على إنارة الطريق لسحب البساط عن هذه الأعطاب. عانينا هذا المأزق مع صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، والتي تلتها من الناحية البحثية والعلمية لائحة عريضة من المؤلفات والدراسات والأبحاث بخصوص قراءة أسباب صعود أسهم تنظيم «القاعدة»، ونعاني نفس المأزق خلال السنين الأخيرة مع ظاهرة نموذج جديد وصادم من «الجهاديات»، والمجسّد تحديدًا فيما يصدر عن أخطر الحركات الإسلامية «الجهادية» في العصر الراهن، والإحالة على تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروفة إعلاميًا وعالميًا اليوم بتنظيم «داعش». في هذا السياق البحثي، يأتي كتاب حديث الإصدار للباحث العراقي جاسم محمد، ويحمل عنوان: «داعش والجهاديون الجدد» مع عنوان فرعي سوف يسيل الكثير من المداد وجاء فيه بالحرف: «داعش بعد الاتفاق الكيميائي وتحالف القاعدة والإخوان بعد الحظر في مصر». (صدر الكتاب مطلع العام الجاري عن دار الياقوت للطباعة والتوزيع والنشر، عمان، الأردن، ط1، 2014، وجاء في 396 صفحة، والعمل في الواقع يندرج ضمن سلسلة من الإصدارات التي يروم أن يتخصص فيها الكاتب وتتمحور حول مفهوم الإرهاب، حيث سبق له أن أصدر عن نفس دار النشر في غضون العام 2012 كتابًا يحمل عنوان: «الإرهاب والإرهاب السياسي». جاء العمل موزعًا على فصلين: «داعش بعد الاتفاق الكيميائي» و«تحالف القاعدة والإخوان بعد الحظر في مصر». وواضح أن الكتاب ينطلق من فرضيات أسّس عليها الكاتب لائحة من السيناريوهات المُجسّدة للخيط الناظم للعمل، تأسيساً على متابعته لمجريات الأحداث هناك في العراق والشام، خاصة أنه قريب جغرافيًا مما قد يُصطلح عليه اليوم بأهم بؤر نقاط الفتنة السائدة اليوم في المنطقة العربية، في سياق «فوضى خلاقة» رهيبة، اصطلح عليها إعلاميًا بأحداث «الربيع العربي». وهكذا خُصّص الباب الأول للترحال مع معالم أداء الجهاديات عمومًا في سوريا، وخصّ المؤلف بالذكر تنظيم داعش وجبهة النصرة ولائحة عريضة من الحركات الإسلامية «الجهادية»، متوقفًا بالتحديد من مرحلة إيقاف التمويل الأمريكي للتنظيمات «الجهادية» إلى محطة فتح قنوات الحوار مع هذه الجماعات، وموازاة مع فتح قنوات الحوار مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد في غضون مطلع ديسمبر 2013. (أسلوب الكاتب في تناول هذه الأحداث يُذكِّر القارئ والناقد نوعًا ما بأسلوب الكاتب والمحلل السياسي الأشهر في الساحة العربية محمد حسنين هيكل، مع وجود فوارق جمة طبعًا، ليس هذا مقام التفصيل فيها). في مضامين هذا الباب يتناول المؤلف استراتيجية تنظيم داعش وجبهة النصرة ومختلف الحركات الإسلامية «الجهادية»، متوقفًا عند طبيعة مقاتليها من الداخل، ومناقشاً أيضاً استراتيجية تمدد تنظيم داعش في المنطقة الغربية من العراق وشرق سوريا لتمتد عند الحدود اللبنانية، معتبرًا أن الحرب ما بين الأنظمة السياسية وتنظيم «القاعدة» تكاد تؤسس لحرب «المائة عام»، وأنها بالتالي لن تنتهي قطعًا بالمواجهة العسكرية بقدر ما تحتاج إلى مشروع تنموي قومي متكامل مع وجود تعاون دولي وإقليمي، وهذا ما رُوج له مؤخرًا على هامش لقائي جدة وباريس بخصوص تأسيس تحالف دولي للحرب على تنظيم داعش، بالصيغة التي يُلخصها العنوان التالي: «الحرب على الإرهاب يجب أن تكون شاملة»، وإلا سوف نعيد إنتاج أشباه تنظيم «القاعدة» وأشباه تنظيم داعش واللائحة تطول. في ثنايا هذا الباب يتوقف الكاتب كذلك عند تبعات قدوم «الجهاديين» من خارج المنطقة العربية (تأكد رسميًا مثلًا وبإقرار الخارجية الأسترالية هناك حوالي 150 مقاتلًا جهاديًا من أستراليا شدوا الرحال إلى العراق والشام خلال السنين الأخيرة منذ اندلاع أحداث فتنة «الربيع العربي»)، وتوقف المؤلف بالتالي عند معالم القلق الأوروبي من عودة هؤلاء «الجهاديين» إلى الديار الأوروبية (نموذجًا) واصفًا الظاهرة بأنها أشبه ب«سياحة جهادية». كما توقف الكاتب في خاتمة هذا الباب عند بعض القلاقل التنظيمية التي طالت كبرى المشاريع «الجهادية»، حتى وقت قريب: تنظيم «القاعدة» دون سواه، مع تأكد تمرد بعض فروع التنظيم على التنظيم المركزي، إضافة إلى ثبوت حالات الانشقاقات الداخلية، وأهمها حالة تنظيم «داعش» ليتحول التنظيم المركزي إلى رمز وبيعة وشرعنة «الجهاد». وفيما يتعلق بالباب الثاني اشتغل المؤلف على جزئية مؤرقة للغاية ما زالت تتطلب الكثير من الحفر البحثي والمعطيات الميدانية، ونقصد موضوع تحالف تنظيم «القاعدة» وجماعة الإخوان المسلمين بعد الحظر الرسمي الذي طال الجماعة في مصر. نقول هذا أخذًا بعين الاعتبار أن التجاهل كان موقف العديد من الرموز الإخوانية في الساحة العربية مما يقوم به تنظيم داعش التي أحرجت أغلب الإسلاميين عمومًا بطرحها الصريح لإقامة ما يُسمى «دولة الخلافة»، خاصة أن أعمال داعش أساءت بشكل كبير لصورة الإسلام والمسلمين، وقدمت الدين الخاتم كما لو أنه عقيدة للقتل والنحر واضطهاد الآخرين من الديانات والملل الأخرى في مشروع يبدو وكأنه مبرمج لتعزيز الصورة النمطية بأن الإسلام هو عين ما يقوم به تنظيم داعش. وهكذا ارتحل المؤلف في معالم وواقع الجماعة بعد صدمة 30 يونيو 2013 التي تميزت بخلع الرئيس المصري السابق محمد مرسي (الرجل الثالث في تنظيم الجماعة بعد المرشد محمد بديع والرجل القوي خيرت الشاطر)، وتضمن الباب مجموعة دراسات تحليلية حول ما انتهت إليه الأوضاع في مصر بعد عزل محمد مرسي، وحظر الجماعة وإعلانها تنظيم إرهابي في 24 ديسمبر 2013. كما تناول أيضًا التطورات السياسية والأمنية وتحليل للتطورات التي تجري على الأرض لجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم «القاعدة» و«الجهاديات» في سيناء وما وصفه المؤلف بعملية تبادل الأدوار بين التيار الإخواني والتيار «الجهادي»، ملاحظًا في هذا الصدد أن أغلب الجماعات «الجهادية» خرجت من عباءة الإخوان المسلمين -الإحالة هنا على التيار القطبي في الجماعة نسبة إلى القيادات التي تأثرت بأدبيات سيد قطب - وناقش المؤلف تفاصيل خارطة التنظيمات الجهادية وتنظيم «القاعدة»، متوقفًا عند تمددها الجغرافي للدول عبر حدود سيناء، وفي غزة وليبيا والسودان، وأيضًا تراجع التنظيم المركزي والدور التركي والإسلام السياسي في المنطقة. وما يغذي القلاقل النظرية والعملية بخصوص العلاقة الافتراضية بين التيار الإخواني والتيار «الجهادي» ما رُوج من طرف بعض المنابر الإعلامية بخصوص مطالب بعض القواعد الإخوانية في المنطقة العربية -ومعها توقع بعض الباحثين في الساحة- أن «الجهاديين» اليوم مرشحون فوق العادة للانتقام للإخوان من تداعيات صدمة 30 يونيو 2013، وازدادت الصورة تشويشًا وضبابية مع التحالف الدولي القائم اليوم ضد تنظيم «داعش»، حيث نعاين معارضة إخوانية صريحة لهذا التحالف في مواقع الرموز الإخوانية أو المحسوبة على المرجعية الإخوانية بالصيغة التي جسدتها على الخصوص مواقف الشيخ يوسف القرضاوي، والأمر سيان في العديد من الفروع الإخوانية في الساحة العربية (في الحالة الأردنية مثلًا تحدث فرع التنظيم مُجسّدًا في «جبهة العمل الإسلامي» الإخوانية عن المخاطر التي قد تهدد الأمن القومي الأردني في حال انخراط الأردن الميداني في الحرب العالمية بالضد من تنظيم «داعش»، مطالبًا بالتالي بعدم تورط النظام في هذه الحرب)، وهذه الرؤية رؤية الإخوان المسلمين ورسالتهم إلى أن موقفهم قريب من داعش، ولكي ينفوا عمالتهم أو علاقتهم بالولايات المتحدة التي لطالما حاولوا نفيها باستمرار. وقد تكون أهم مضامين هذا الباب سرد بعض المعلومات الميدانية عن تنظيم داعش والجهاديين، أكثر من مضامين التحليل الذي يبقى نسبيًا بالنظر إلى تعقد الأوضاع وتداخل الحسابات وتورط العديد من الجهات من الداخل والخارج. جدير بالذكر أن مؤلف الكتاب جاسم محمد باحث متخصص في ظاهرة الإرهاب وعلاقته بالاستخبارات (ومن هنا الأهمية التي طالت العمل، حتى إن بعض وسائل الإعلام الأوروبية وشبه حكومية عربية وعربية خليجية تعتمد وتتبنى مضامين بعض دراساته، ومعها بعض الصحف المطبوعة العراقية المحلية والدولية في لندن)، والكاتب متتبع بالنتيجة في الحركات الإسلامية الجهادية، وفي تنظيم «القاعدة»، وجماعة الإخوان المسلمين، ويشغل مدير المركز الأوروبي العربي لدراسات مكافحة الإرهاب، ولديه خبرة عملية مؤسساتية طالت عشرين عامًا، وهو في الأصل دبلوماسي عراقي سابق، ويشترك بتعاون علمي مع مجموعة باحثين وخبراء متخصصين في الأمن والاستخبارات والدفاع من أجل تبادل المشورة وبمراكز دراسات متخصصة في تنظيم «القاعدة» و«الجهاديات» وسياسات الأمن.