لما أرادَ امرؤ القَيسِ المضيَّ إلى قيصرَ ملكِ الرُّومِ، أودعَ عندَ السَّموأل دُروعاً وسلاحاً وأمتعةً تساوي من المالِ جملةً كثيرةً. فلمَّا ماتَ امرؤُ القَيسِ أرسلَ ملكُ كندةَ يطلبُ الدُّروعَ والأسلحةَ المودعةَ عندَ السَّموألَ، فقالَ السَّموألُ: لا أدفعُها إلا لمستحقِّها، وأبى أن يدفعَ إليه منها شيئاً، فعاودَه فأبى، وقالَ: لا أغدرُ بذمَّتي، ولا أخونُ أمانتي، ولا أتركُ الوفاءَ الواجبَ عليَّ، فقصدَه ذلك الملكُ من كندةَ بعسكرِه، فدخلَ السَّموألُ في حُصنِه، وامتنعَ به، فحاصرَه ذلك الملكُ. وكانَ ولدُ السَّموأل خارجَ الحُصنِ فظفرَ به الملكُ فأخذَه أسيراً، ثمَّ طافَ حولَ الحُصنِ، وصاحَ بالسَّموأل، فأشرفَ عليه من أعلى الحُصنِ، فلمَّا رآهُ قالَ له: إنَّ ولدَك قد أسرتُه، وها هو معي، فإن سلَّمتَ إليَّ الدروعَ والسِّلاحَ التي لامرىءِ القَيسِ عندَك، رحلتُ عنك وسلَّمتُ إليك ولدَك، وإن امتنعتَ من ذلك، ذَبحتُ ولدَك وأنت تنظرُ، فاخترْ أيُّهما شئتَ، فقالَ له السَّموألُ: ما كنتُ لأخفِرَ ذِمامي، وأبطلَ وفائي، فاصنعْ ما شئتَ، فذبحَ ولدَه وهو ينظرُ، وصبرَ السَّموألُ على ذبحِ ولدِه، في سبيلِ محافظتِه على وفائِه، ثمَّ لمّا عجزَ عن الحُصنِ رجعَ خائباً، فلمَّا جاءَ الموسمُ وحضرَ ورثةُ امرىءِ القيسِ، سلَّمَ إليهم الدُّروعَ والسِّلاحَ .. فسارت الرُّكبانُ بعد ذلك بهذا المثلِ: (أوفى من السَّمَوأل). جاء الإسلام بعد عهود الجاهلية ليتمم مكارم الأخلاق عند العرب ومن ذلك خُلق « الوفاء»، فكم نحتاج اليوم قبل أن نرفع أصواتنا لنهجو ندرة الوفاء في زماننا أن نتفقده في أنفسنا وحياتنا، كيف هو وفاؤنا لرفيقة الدرب وأم أولادنا، وقد ضرب لنا النبي عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة في ذلك، تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ). وكانَ يُكرمُ أهلَها وصاحباتِها .. فقد جَاءتْ عَجُوزٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فَقَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟)، قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يَارَسُولَ اللَّهِ تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الإِقْبَالَ؟، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَانَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنْ الإِيمَانِ). مع ضجيج الحياة والأعباء المتلاحقة والمشاغل المتتابعة يصبح المرء بحاجة لجلسة تأمل حول شخصيات في حياته كان لها أثرها الطيب وبصمتها الجميلة ولكنه نسيها في زحمة الحياة ...كم من معلم علّمنا ؟ وكم من صاحب ساعدنا ؟ وكم من رفيق واسانا ؟ وكم من صديق شجعنا وحفزّنا ؟ ...كل هؤلاء وغيرهم أحوج منا اليوم للمسة وفاء بهدية أو اتصال أو رسالة دافئة...وإن حسن العهد من الإيمان.