الوفاء بالعهود وإنفاذ الوعود من شيم الكبار وأخلاق العظماء. وهم لا يترددون أبداً في الالتزام بما وعدوا به أو عاهدوا عليه ولو بطرف لسانهم، فكيف بالمكتوب الموثق الذي يرميه الصغار والتافهون خلف ظهورهم في أول اختبار يتعرضون له. ولعل السموأل بن عاديا أشهر من عُرف عنه هذا الخلق النبيل في الجاهلية الأولى، إذ يُقال إن امرأ القيس أودع عنده دروعاً وأسلحة وأمتعة قبل أن يتوجه إلى قيصر ملك الروم. فلما مات امرؤ القيس أرسل ملك كنده يطلب الدروع والأسلحة من السموأل، فأبى وقال: لا أغدر بذمتي، ولا أخون أمانتي. فتوجه إليه الملك بعسكره فدخل السموأل في حصنه متحصناً، ووقع ابنه الذي كان خارج الحصن في يد الملك، فصاح على السموأل: ادفع لي دروع وأسلحة أمرئ القيس، وأعيد لك ولدك وأرحل عن بلدك، وإلا ذبحت ولدك، فرفض السموأل إبطال عهده ونقض ذمته، فذُبح ولده. وعجز الملك عن فتح الحصن فرحل عنه، فلما كان العام الثاني أتى ورثة أمرئ القيس واستلموا أمانتهم. هكذا اعتبر العرب الأوائل الوفاء قيمة عظمى تستحق التضحية في سبيلها بأغلى ما يملك الفرد، فنقض العهد في ميزانهم كارثة كبرى وفجيعة عظمى تلحق بصاحبها عاراً لا يُمحى وخزياً لا يُنسى. ولذلك شدد القرآن الكريم على هذا المعنى العظيم فصرح آمراً: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..) وأثنى على (الموفون بعهدهم إذا عاهدوا...)، ووصف المؤمنين بأنهم (لأماناتهم وعهدهم راعون). ولا غرابة إذن من أن نسبة كبرى من القضايا المعروضة على القضاء راجعة في أصولها لرذيلة نقض العهد وإخلاف الوعد وإنكار الحق. ولو أننا رسخنا هذا الخلق الكريم في أجيالنا الناشئة عبر البيت والمدرسة والمسجد والشارع لحُلت نصف مشاكلنا ولعادت إلينا هيبتنا ولسعد الناس وارتاح القضاء وصلح الحال. يا ليت شعري من منا ينادي بأعلى صوته: إني امرؤ في الوفاء سجية وفعال كل مهذب مفضال الوفاء شهيد مطامعنا وضحية تلهفنا على الكسب السريع والثراء الحرام. وغداً أعرض قصة البريطانية أيفون ريدلي التي أكرمها الله عز وجل بالإسلام بسبب هذه الخصلة الكريمة.