من يعرف منطقة "باب التبانة" في طرابلسلبنان الشمالي، لا يحتاج أن يعرف أي شيء إضافي من كتاب الفقر والفقراء، فالمنطقة التي تنام بعد صلاة العشاء، تستيقظ عند أذان الفجر. مؤمنة بأن الصلاة خير من النوم، وأن الفلاح والكد يبدآن مع الشروق، وخير الرزق ما سعى إليه الإنسان قبل أن يستقبل شمس صباحه. العلاقات الاجتماعية في بعض أحياء طرابلس وشمالها. مثل «باب التبانة وأبي سمراء والمنية والضنية وبعض مناطق الميناء»، تقوم على قاعدة من التعاطف والتماسك والألفة. الكل يحمل هموم الكل، والكل يتوكل على خالقه الأحد الأوحد. لذلك لا نستغرب أن يتحرك الجميع على إيقاع موحّد. وكأنهم في ليلة من ليالي الذكر، حيث يدور "المولوي" على رؤوس أصابعه، مردّداً يا حيّ يا قيّوم. كتلة من الاقتناع الديني، يسهل أن يحرّفها أحياناً بعض المشايخ، الذين لا تتأكد زعامتهم الدينية إلا عبر الانقياد التام من قبل التابعين والمريدين. فلا غرابة أن تنشأ في هذا الجو شبكة من الولاءات الغريبة، وترتفع إلى مستوى العقيدة التامة فكرة التقية التي تستحق الدفاع عنها حتى الموت. إنهم أبناء عائلات معروفة، بل معدودة تغطي البناء الاجتماعي الطرابلسي. فمن بيت ميقاتي خرج كبار أهل السياسة والفكر، ومنهم المشايخ وقادة الفرق الدينية المسلحة، ومنهم آل مولوي وآل كرامي وآل كبارة وآل الرافعي وآل الشعار وآل الريفي وآل الجسر وغيرهم، فيما تتمركز في منطقة باب التبانة بالذات شخصيات ذات ثقل نوعي، مثل نبيل العرجة رئيس جمعية تجار طرابلس، وبعض من شخصيات سوق العريض أمثال فواز الحلوة وبركات الحلبي ومحمد كردوفاكي رجل الصناعة المعروف. المنطقة فقيرة بعمالها وشغّيلتها وكادحيها، وكريمة برجالاتها وشبابها، مع ذلك كانت منطقة باب التبانة بالذات مجتمعاً محشوّاً بالغاضبين، أمثال أحمد سليم ميقاتي هو وشقيقه الأكبر ووالده، وقد سبق لهذا الشاب الثلاثيني أن خاض 22 جولة حرب، متمترساً في باب التبانة وفي الأسواق القديمة، لا سيما عندما كانت الحرب مستعرة بين "جبل محسن" بقيادة (آل عيد) العلويين، والمنطقة الشرقية من طرابلس. انتمى أحمد ميقاتي إلى كتائب داعش وبايع قائدها "أبو بكر البغدادي"، عندما كان يستطيع البغدادي أن يتسلّل من جرود عرسال إلى منطقة الضنية. وذلك بتمهيد وتسهيل من الشيخ (عثمان حنيني)، الذي زوّده بكل ما يحتاجه لتأسيس ثلاث خلايا جاهزة تتوزع على المنية والضنية وباب التبانة. واقع هذه الخلايا، لم يكن نائماً بالمعنى السلبي الانتظاري لاشارة البدء والتحرك، بل ترك لقادتها المنتشرين بين أبي سمرا ومشتى حسن والضنية والمنية، باختيار الوقت الملائم للانقضاض على الوحدات المتناثرة للجيش اللبناني، وأخذ أكبر عدد من الأسرى، ونقلهم إلى حيث يتمركز الشيخ عثمان حنيني في التلة الشرقية. كما رسمت الأدوار المحددة لأغلب الكوادر الموجودين أصلا داخل أحياء طرابلس القديمة، أمثال شادي المولوي وأسامة منصور. أما خارج أسواق طرابلس وفي محلات أبي سمرا وظهر العين في الكورة وتحديداً في وادي هاب فقد تبين أن مجموعة (خالد حبلص) كانت قد جهزت حالها للتحرك والانقضاض. قبل أن يتلقى الأمر بالحركة، تحرك أحمد سليم ميقاتي. وتحولت منطقة باب التبانة بالذات إلى بؤرة نار ضد الجيش اللبناني. وقد لاحظ المراقبون بأن الجيش اللبناني وحده كان الهدف. وأن تحطيم البنى التحتية للدولة اللبنانية، من مدارس وادارات رسمية صارت أهدافاً استهدفها الداعشيون. لم يتراجع الجيش ولو تراجعاً تكتيكياً، بل بادر إلى الهجوم. باعتبار الهجوم أحسن وسائل الدفاع الايجابي. ومن الساعات الأولى للمعارك، وجه الجيش اللبناني سلاحه نحو قلب المعركة، أي نحو الأسواق القديمة، فكانت نسبة الرماية المباشرة على باب التبانة أكثف نسبة رمي في حرب ردع موضعية تتسم بالطابع المباشر والصدامي القريب. وكان الجيش يدرك أن الجانب الداعشي توزع إلى جيوب متناثرة بين ابي سمرا وباب التبانة والمنية. لذلك قام بإلتفافة ذكية جداً على الجناح الشرقي حيث بدأ يضرب البؤر المجتمعة في بحنين ومشتى حسن ومشتى حمود والضنية. كما وصل إلى التلة الشرقية حيث قضى بسرعة على قوات الشيخ عثمان حنيني. أما بعيداً عن أجواء المعارك الشمالية، فقد تحركت قطاعات الجيش في جنوبلبنان وبخاصة منطقة مخيم عين الحلوة بصيدا. حيث ألقت القبض على عبد الرحمن حميدة وأحمد شرف قبل أن يحركا عناصرهما. لقد خسرت داعش معركة لبنان بسرعة فائقة. والسبب يقظة الجيش وعدم وجود بيئة حاضنة للإرهابيين، ثم تماسك الجيش وعدم تفككه كما كان يراهن بعض المتطرفين. إن الدعم السعودي السريع والمباشر للبنان وجيشه سيلعب- وقد لعب فعلاً- دوراً كبيراً في مساندة الدولة اللبنانية وجيشها. وما الحركة السريعة التي قام بها السفير السعودي في لبنان السيد علي بن عواض عسيري، إلا الإشارة الأقوى التي أبلغت لرئيس الحكومة اللبنانية تمام صائب سلام، بأن ما قام به الجيش اللبناني يستحق التقدير والاعجاب. أما الموقف المركزي والأساسي الذي أطلقه الرئيس سعد الحريري، فقد رفع الغطاء السني كلياً عن هؤلاء العدوانيين الدواعش، الذين اعتقدوا مخطئين بأن هناك من سيقف إلى جانبهم، وهم يحولون الوطن إلى إمارة طائفية. لقد دفعت هزيمة هؤلاء المتطرفين بأبي بكر البغدادي قائد الدواعش لأن يقول: "لقد استعجلت الخلايا النائمة، فتحركت قبل أن تنضج المعطيات وتمتلك كامل العدّة والاستعداد"! ولكن السؤال الأخير الذي لا بدّ من إثارته الآن، تُرى هل ينتمي هؤلاء الذين فجّروا الأوضاع في طرابلسلبنان الشمالي إلى داعش أم إلى النصرة؟ يستند بعض المهتمين بالشؤون الإسلامية على كلام قاله "أبو محمد الجولاني" في حديث تلفزيوني له أمام قناة الجزيرة أواخر العام المنصرم، إذ قال إن النصرة دخلت الآن إلى لبنان، وإننا وحدنا هناك. فيما كشفت معركة عرسال بأن محاولات الدخول وإنشاء خلايا نائمة في لبنان، هي جهود يقوم بها كل من داعش والنصرة، وأن البيان رقم (1) الذي أصدرته النصرة بالاشتراك مع سرايا مروان حديد (فرع من كتائب عبدالله عزام)، يشير إلى صراع متنافس بين داعش والنصرة على الساحة اللبنانية. إن الأمور بحاجة إلى متابعة ومراقبة، فهناك رغم الهزيمة التي مُني بها المتطرفون إصرار على الاستمرار بالتحرش بالساحة اللبنانية، لأنها تشكل لهم إحدى أكثر الساحات أهمية وخطورة وأثراً. فهي منطقة تماس مباشر مع أوروبا وأميركا والعالم العربي كله. والساحة اللبنانية كما سبق وتبلورت فيها الثورة الفلسطينية وتحولت مزروعة اليوم في قلب فلسطين. فإن هذه الساحة إذا ما زرعت فيها إمارة لداعش أو للنصرة، ستكون مثار كتابات ونقاشات وصراعات تعمّ الدنيا برمّتها. فلبنان هذا الصغير هو ساحة بحجم الدنيا.