في الشهر الأخير من العام 2012، وصل خبر مقتل حوالى 17 مراهقاً وشاباً طرابلسياً كانوا متوجهين الى سورية لقتال النظام السوري ضمن مجموعة أكبر. ويبدو ان المجموعة وقعت في مكمن نصبه لها الجيش السوري في منطقة تلكلخ بعد ان تسرب له خبر توجه هؤلاء الشباب للقتال هناك. جميع الشبان القتلى كانوا من مناطق باب التبانة والمنكوبين والقبة شرقي طرابلس، وكانوا متوجهين الى سورية للالتحاق بتنظيم «جند الشام» في بلدة قلعة الحصن قرب حمص، وهي جماعة أسسها هناك طرابلسي آخر من باب التبانة أيضاً اسمه خالد المحمود. وشرع خالد منذ تأسيسه الجماعة هذه باستقدام شبان وفتية من الأحزمة الطرابلسية الفقيرة للقتال في سورية. وكان الخبر الأخير الذي تصدر أعمال تلك الجماعة تنفيذها عملية انتحارية بالقرب من تلكلخ نفذها شابان من طرابلس أيضاً. هذه محطات من سيرة «أمير» جماعة «جند الشام» في قلعة الحصن خالد المحمود: «هو ليس رجل دين، انه مجرد إمام مسجد، وهو ليس سلفياً، انما تبليغي في صوته نغمة تجويدية»، هذا ما وصف به سلفي، كان يقف في شارع سورية في طرابلس، حال الشيخ وليد طبوش، الذي كان يلقي خطبة خارج مسجد خالد بن الوليد على شارع سورية ولبنان في باب التبانة. وكان طبوش يومها واقفاً على العتبة الخارجية للمسجد وأمامه طاولة وُضع عليها سيف استُل من غمده، ومحاطاً بعشرات قليلة من الرجال والفتية، فيما كان شبان يقطعون خطبته عبر إطلاق الرصاص في الهواء من مسدساتهم. لم يكن الشيخ ممسكاً بوجدانات «مريديه». كانوا يبتسمون كلما رفع صوته قاصداً تقليد الشيوخ الهادرين على منابرهم. لقد كانوا في ذلك اليوم بحاجة الى شيخ لكي يتجمعوا حوله، فأتوا بالشيخ طبوش، وراح هو يصرخ وهم يبتسمون ويطلقون الرصاص. وباب التبانة التي كان يجري هذا في شارعها الرئيس، وعلى مدخل مسجدها الشهير الذي تربى فيه عشرات من شيوخ السلفية القتالية، لم تكن في ذلك النهار مصغية. فأسواق الخضار كانت عامرة بالمتسوقين، ومحال ميكانيك السيارات على جانبي الشارع لم يتوقف العاملون فيها عن ضرب الحديد. ثم إن بعل محسن، المنطقة التي يتقاتل أهل التبانة مع أهلها منذ سنوات، لم تكن قلقة في ذلك النهار. كان من بين المتجمعين حول الشيخ طبوش، رجل ستيني يرتدي قميصاً كحلياً. نحيل وحاد الملامح، وذو لحية خفيفة بيضاء غير مستنبتة بعناية. لم يكن الرجل هذا مصغياً الى الشيخ، أو هذا ما كان يوحي به وقوفه. انه رياض المحمود، والد خالد المحمود الذي أقدم فور خروجه من السجن، وقبل ان يُغادر للقتال في سورية وإنشاء إمارة له في قلعة الحصن قرب حمص، على فصل والده عن أمه، فاصطحبها الى عكار واستأجر لها منزلاً هناك هي وشقيقاته، وأبعدها عن زوج عنيف وغير ملتزم. لم يقبل الشيخ بكر بالتقدم معنا باتجاه أبو خالد الذي كان قريباً من منصة الخطيب خارج المسجد. قال: «انه رجل غير ودود ولا يُحب أصدقاء أولاده، ومن الأفضل ان تقتربوا منه وحدكم». وحين فعلنا، لم يبدِ الرجل نفوراً، لكنه لم يكن مستجيباً. قال ان أولاده ذهبوا الى الثورة، فمنهم من قُتل ومنهم من يقاتل، و «من يُقدم على ذلك، عليكم ان تسألوا الله عنه لا أن تسألوني أنا». لم يصدر عن الرجل ما يُمكّننا من تحديد ما اذا كان قوله هذه العبارة نوعاً من الاحتجاج على ما أقدم عليه أبناؤه، أم انه تبنٍ وقبول. كان بارداً ومحايداً، وغادر قبل ان ترتسم على وجهه ملامح تُمكّننا من تحديد مشاعره. كان رياض يتقدم باتجاه منزله بخطى غير حثيثة. من مسجد خالد بن الوليد الى المنزل الكائن في المبنى الثاني من شارع ستاركو. يُمكن المرء أن يُحضر خالد من مخيلته وأن يُحلّه محل والده ويُرسله الى منزله مستعيداً خطوه الى منزله، هو المتواري الآن خلف الحدود. المنزل والمسجد هو ابن والدته على ما يؤكد جميع أصدقائه. والدته السورية وابنة العائلة المتدينة والورعة. ووالدته ضحية الوالد الجاف. ثم ان خالد لا يُشبه والده، ففي الفيديو الذي ظهر فيه حين أُعلن قيام تنظيمه «جند الشام» في بلدة قلعة الحصن السورية، ظهر وجهه مستديراً، وبدا انه أقل طولاً من أبيه، وبدت عليه علامات السُمنة، على رغم ان الثياب الفضفاضة للسلفيين تُخفي ما تُحدثه السمنة في الجسم. وهو، على ما ظهر من قوامه في الفيديو لا يصلح لأن يكون فتوة جماعته، فهو على الأرجح ساعٍ لأن يكون شيخهم لا فتوتهم، على رغم ان المهمة هناك تحتاج الى فتوة. فهو أمير الجماعة على ما سمّى نفسه، والأمير فتوة مريديه قبل ان يكون شيخهم. وخالد الذي لا يُشبه أباه، نشأ على غير مشابهته، فالوالد وفق أبناء «دعوة» خالد أب قاسٍ ويشرب الخمر وغير ملتزم دينياً، وهذا كان منذ نشأة «أمير جند الشام». والوالد الذي كان عسكرياً في الجيش اللبناني ثم بائعاً للخردة وموزعاً لها في شاحنته الصغيرة، كان والداً طارداً للدفء في أوساط العائلة، وكان الصبيان في العائلة يهربون من المنزل الى المسجد طلباً للأمان منذ صغرهم، وكانت الوالدة السورية الجنسية تدفع بهم الى المسجد إنقاذاً لما يمكن انقاذه. وأولاد رياض سبعة أبناء وثلاث بنات، وخالد هو بكرهم. قُتل من الأبناء ثلاثة، ورابع مصيره مجهول. والأبناء القتلى هم محمد الذي قُتل في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين الذي لجأ اليه في أعقاب معركة الضنية في العام 2000، وبلال الذي قُتل غيلة، على ما يؤكد أبناء دعوته، في باب التبانة في اشتباك مع القوى الأمنية في أعقاب معارك نهر البارد في العام 2007، والثالث هو أبو رياض وقتل في سورية عندما كان يقاتل في جماعة شقيقه خالد. ورابع الأشقاء مختفٍ أيضاً في سورية، ومن المحتمل ان يكون أسيراً لدى قوات النظام السوري. التعب البادي على وجه رياض (أبو محمود) هو أقرب الى الشقاء منه الى الحزن. ربما كان العمل في الخردوات والحديد ما أحدث هذه الندوب. ثم ان الرجال في باب التبانة غالباً ما تصيب وجوههم أصوات ارتطام الحديد بالحديد. هل الرجل حزين على ما أصاب أولاده؟ فعندما قُتل ابنه بلال (أبو جندل) «بكى وحزن ولجأ الى المسجد لأيام قليلة وما لبث ان كفّ عن ذلك وأستأنف حياته كما كانت قبل مقتل ابنه». قال الرجل انه ولد هنا في التبانة التي قدم اليها أهله في بداية خمسينات القرن الفائت. هو أصلاً من عكار من بلدة مشتى حمود، على الحدود مع سورية، حيث عائلته الكبرى، دندشي، وتفرعت منها فروع كثيرة وامتدت على طرفي الحدود. فلخالد أقارب سوريون، وهو اليوم يقيم هناك الى جوارهم، ومن بينهم من يُقاتل معه. في التبانة يُلقبونهم ب «الدراكيش»، من دون ان يكون للقب تفسير، ففي هذه الأحياء لا ثقل للأسماء ولا رسوخ. في أواسط العام 2012 أفرجت السلطات اللبنانية عن خالد المحمود، بعد ان أمضى ست سنوات في السجن هي فترة الحكم الذي صدر بحقه بعد اتهامه بالانتماء الى جماعة «فتح الإسلام» وتفجيره قنبلة في دورية الجيش التي اعتقلته. كانت فترة السجن الثانية التي يمضيها خالد في سجن رومية، فهو كان قبلها قد أمضى خمس سنوات في السجن نفسه، من العام 2000 الى العام 2005 بتهمة الانتماء الى مجموعة «أبو عائشة» التي قاتلت الجيش اللبناني في جرود منطقة الضنية. أصدقاؤه في السجن يصفونه بأنه كان أكثر السلفيين شدة وتمسكاً بأفكاره. حين اعتُقل للمرة الأولى في قضية إمارة الضنية، سأله المحقق: هل قتلت جنوداً من الجيش اللبناني؟ فأجابه: «لم أنل هذا الشرف بعد». في المرة الثانية حين ألقت دورية للجيش اللبناني القبض عليه كانت في حوزته قنبلة صوتية قام بتفجيرها بنفسه وبالجنود فأُصيبوا جميعاً. ويقول محمد الذي كان معه في الزنزانة نفسها: «كان حاد الطبع ولا يُجاهر بكل ما يعتقد، ولكن اذا جاهر به، كان يفعل ذلك بشدة». كما يُشير محمد الى ان خالد دخل السجن وهو لا يعرف شيئاً في ادارة شؤونه. تعلم الغسل والطبخ في السجن، ذاك ان والدته التي يُحبها كثيراً لم تُشعره بالحاجة الى العمل المنزلي. «كان نظيفاً لأن والدته نظيفة». وأمير «جند الشام» في قلعة الحصن من مواليد العام 1977، ويقول الشيخ شادي ان خالد بدأ بالتردد على مسجد خالد بن الوليد في شارع سورية ولم يكن بلغ العاشرة من عمره. وفي المسجد تلقى دروسه الأولى على يد الشيخ شادي الذي كان في حينه طالباً في معهد يديره الشيخ حسن الشهال في منطقة أبي سمرا. «كان هو وإخوته يهربون من المنزل ومن والدهم الى المسجد»، هذه العبارة رددها كثيرون ممن يعرفون خالد في باب التبانة. المنزل في شارع ستاركو القريب من شارع سورية. خطوات قليلة من المنزل الى المسجد، هي نفسها الخطوات التي خطاها والده في ذلك النهار، عندما غادر عتبة المسجد متوجهاً الى منزله، صامتاً ومخلّفاً وراءه فتية يُطلقون الرصاص كلما رفع الشيخ طبوش صوته متوعداً الدولة اللبنانية. وقال قبل ان يُغادر: لقد ذهبوا الى الثورة، وعليكم ان تسألوا الله عنهم. في غياب شيخه قال الشيخ شادي ان خالد كان يأتي الى المسجد مع شقيقيه محمد وبلال بدفع من أمه المتدينة والراغبة في إبعاده عن عنف الوالد. لا يجزم الشيخ بأن الصِبية كانوا عُرضة لعنف والدهم، لكنه يجزم بأن الوالد كان شارب خمر، وهو، بحسبه، ما يمكن ان يدفع الى الضرب. وسافر الشيخ شادي بعد ذلك، ثم عاد بعد سنوات ليكتشف أن خالد وشقيقه محمد صارا طالبين في معهد الإمام البخاري للدراسات الإسلامية، وهو معهد سلفي في وادي الجاموس في عكار. ويبدو ان الانتساب الى المعاهد الدينية المتوسطة والثانوية هو دأب العشرات من شبان الأحزمة الفقيرة في طرابلس. فهذه المعاهد شبه المجانية تؤمّن لطلابها مأكلاً ومسكناً وتعليماً دينياً سلفياً في الغالب. وهي، أي المعاهد، في معظمها ممولة من جمعيات سلفية غير لبنانية، ويشرف على ادارتها شيوخ من أبناء الدعوة السلفية العلمية الذين تربطهم خصومة مريرة مع السلفية الجهادية والقتالية التي انتهى إليها عشرات من طلاب هذه المعاهد. لم يُكمل خالد عامه الثاني في معهد البخاري، فقد اصطدم مع أساتذته من شيوخ السلفية العلمية غير القتالية وفُصل من المعهد. كان ذلك في العام 1999. واصطدام طلاب المعاهد السلفية بأساتذتهم وفصلهم من المعاهد شكّلا ظاهرة في تلك الفترة. فقد كانت «القاعدة» قد بدأت تتحول «موديلاً» ونموذجاً يُخاطب أمزجة شبان تلك البيئة. والصدام مع ادارات المعاهد لم يكن جيلياً فقط، فهو كان يحصل في الفارق الضيق بين السلفيتين، والذي يتمثل في المسافة بين طلب اقامة شرع الله عبر الدعوة وطلبها عبر القتال. عشرات من الشبان غادروا المعاهد بعدما لقنهم مشايخهم ضرورة اقامة شرع الله، ولكنه تلقين اقترن بذم شيوخ الجهاد بدءاً من سيد قطب ووصولاً الى اسامة بن لادن. وشبان التبانة في هذه المعاهد «جهاديون» في السليقة على ما يقول الشيخ شادي، وهو كان طالباً في أحد هذه المعاهد وغادرها بعد خلاف مع ادارتها. وهم، وفقه، حصّلوا السلفية من المعاهد والجهادية من التبانة وأمراء حربها. ويشير شادي الى ان أبناء التبانة جهاديون سواء كانوا اسلاميين أو كانوا شيوعيين. قرر خالد ان الدعوة تكون عبر القتال، وغادر المعهد الى جرود الضنية، هناك حيث كان بسام الكنج (أبو عائشة) أقام معسكر تدريب لمجموعة من فتية التبانة والقبة. واصطحب خالد معه شقيقيه محمد وبلال. وعندما داهم الجيش اللبناني المعسكر، تمكن خالد مع شقيقيه من الفرار، لكن حاجزاً للجيش اللبناني أوقفه هو وبلال، فيما تمكن محمد من الهرب، ووصل الى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، هناك حيث شكّلت مجموعة من الفارين من الضنية جماعة بقيادة أبو بكر ميقاتي أطلقوا عليها اسم «جند الشام» أيضاً. لكن الأقدار أقوى من قدرة الناجين في بلاد السلفية الجهادية، فها هو محمد، الناجي من الاعتقال من بين إخوته، يُقتل في المخيم على يد عناصر من حركة «فتح»، على ما يقول أبناء دعوته في التبانة. أُفرج عن كثيرين من التبانة كانوا مسجونين بقضية الضنية قبل ان يُفرج عن خالد، ومن بينهم شقيقه بلال. فقد كان خالد «غير مهادن» وصدامياً مع المحققين ومع حراس السجن، مما مدد فترة سجنه. لكن في العام 2005 أُفرج عنه، وعاد الى شارع ستاركو في التبانة، حيث عمل دهاناً الى أن وصل شاكر العبسي من سورية وأقام معسكر «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد، فالتحق خالد به. ويبدو انه في الفترة التي فصلت بين خروجه من السجن وعمله دهاناًَ وبين التحاقه في فتح الإسلام، أسس الشاب لعلاقات يُمكن توظيفها لاحقاً في التراجيديا التي انعقدت عليها حياة العائلة. فيقول أحد معارف العائلة ان خالد قام بتخطيب شقيقته الى صدام ديب، والأخير عكاري يقيم في منطقة المنكوبين المحاذية لباب التبانة، وكان قائداً لإحدى مجموعات «فتح الإسلام» قتل في شارع المئتين في طرابلس في العام 2007، وهو أيضاً سليل عائلة قتل منها كثيرون في «ساحات الجهاد». ويبدو ان الخطبة لم تدم طويلاً، من دون ان يذكر أحد سبب انفضاضها. لكن علاقة من نوع آخر بين العائلتين لم تنفضّ. فها هو خالد يُرسل قبل أسابيع قليلة الى حاجز للجيش النظامي السوري انتحاريين إثنين فجّرا نفسيهما به، هما ابنا شقيقة صدام ديب، قدما من السويد التي يقيمان فيها ويحملان جنسيتها. كان الخروج من باب التبانة دأب خالد منذ غادرها الى عكار حيث معهد الإمام البخاري. فمنذ ذلك التاريخ كانت حياة الشاب سعياً متواصلاً للمغادرة... الى عكار ثم الى الضنية ثم الى مخيم نهر البارد، وها هو في عودته الأخيرة اليها، بعد سبع سنوات أمضاها في السجن، يستأنف مغادرتها، وهذه المرة الى سورية. والمغادرة كانت دائماً محفوفة ب «الجهاد»، ولا شيء غير «الجهاد». والتبانة حين تطرد فتيتها الى الجهاد لا تتيح لهم الابتعاد عنها. فخالد اليوم في قلعة الحصن محاط بمقاتلين من التبانة يفوق عددهم العشرين، وهو ذهب الى هناك حاملاً ذاكرته وخبراته وآلامه في التبانة. ففي الأخيرة زُرعت بذرة «الجهاد» الأولى، على ما يقول صديقه محمد، وفيها كان المسجد الأول والطلقة الأولى، وإليها وصل الجد من عكار وعمل الوالد بائع خردة. شيخ وليس فتوة والأمير الدندشي، خالد، ليس قائداً عسكرياً، فما أتيح له من دورات تدريب بين فترة سجن وأخرى، وبين خروجه من المعهد وصعوده الى جرود الضنية ليس كافياً لمراكمة خبرات عسكرية. ثم انه لم يُشارك في معارك تُساعده على ذلك. في الضنية غادر مع شقيقيه ساحة القتال باكراً واعتُقل، ومع «فتح الإسلام» اعتُقل قبل اشتعال المعارك بين هذا التنظيم والجيش اللبناني. لكن «الشدة» التي يشير اليها عارفوه مصدرها ليس ما راكمه الشاب من خبرات، انما هي عنف وبأس سابق على الخبرة ومتجاوز لها. بعد الإفراج الثاني عن خالد، لم تدم اقامة الشاب في التبانة أياماً قليلة، أنهى خلالها قضية قديمة تتمثل في نقل إقامة والدته مع والده «غير الملتزم»، فاستأجر منزلاً في بلدته مشتى حمود للوالدة ولشقيقاته، وغادر الى سورية للجهاد. وهناك تزوج من سيدة سورية، والتقى بأقاربه الدنادشة، وأقام إمارته في قلعة الحصن. لم تكن المهمة سهلة في البداية، ذاك ان صداماً بين «المجاهدين» الطرابلسيين وبين كتائب المعارضة السورية في تلكلخ كان سبق خالد الى منطقة جنوبي مدينة حمص، وذلك عندما أقدم وليد البستاني، وهو أمير سلفي طرابلسي جاء للقتال في سورية على إعدام ثلاثة سوريين من أبناء المنطقة، مما دفع الكتائب المحلية الى قتله. ولكن ذلك خلّف صُدعاً وحذراً محلياً من مغالاة «الجهاديين اللبنانيين» القادمين للقتال في المنطقة. عندما وصل خالد الى قلعة الحصن، كان المقاتلون الطرابلسيون قد غادروا المنطقة الى ريف دمشق والى القصير بعد أن ضاق سكان تلكلخ وريفها ذرعاً بهم. لكن عائلة خالد المحمود دندشي الكبيرة تتوزع على طرفي الحدود اللبنانية - السورية، وهو تمكن على ما يبدو من رأب الصدع الذي خلفه البستاني مع السكان المحليين. وهو، كما الكثير من أمراء «الجهاد العالمي»، ما إن حل في ساحة «الجهاد» حتى تزوج من سيدة من المنطقة. باشر أمير «جند الشام» الاتصال بمن تبقى من المقاتلين الطرابلسيين في سورية واستدعاءهم الى قلعة الحصن للانضمام الى جنده. كثيرون فعلوا ذلك، والتحق بهم سوريون من أقرباء خالد الدنادشة، فيما تولى وُكلاء لخالد في أحياء طرابلس تجنيد فتية وشبان وإرسالهم اليه. وقد قُتل في كمين تلكلخ وكيلاه في التبانة وفي منطقة المنكوبين. والإمارة في قلعة الحصن منعقدة لباب التبانة، ذاك ان أخبار ذلك الثغر تصل الى شارع سورية في طرابلس فتثير بين «المجاهدين» هناك انقساماً بين متحمسين للالتحاق صار صعباً عليهم فعل ذلك بعد الكمين الذي أودى بحياة 17 شاباً، وبين من يقول إن ثمة قتالاً موازياً في طرابلس يتطلب البقاء في المدينة. حين أفرجت السلطات اللبنانية عن خالد المحمود، قصده أصدقاء السجن وأبناء «دعوته» لتهنئته، وهو أسرّ للجميع بأن إقامته في طرابلس لن تطول، وأنه سيغادر الى سورية. ومثلما كان السجن مختبراً لصداقات المجاهدين، كان أيضاً ساحة لخصوماتهم. فالسلفية الجهادية غير رحِبة وقابلة للانشطار المتواصل. وحين سألنا محمود، وهو ابن «دعوة» خالد عما اذا كان زاره لتهنئته بعد الإفراج عنه، قال: «رأيته في شارع سورية، كان يمشي مع صديقه على الجانب الآخر من الشارع. ابتسمت له هامّاً بالتوجه اليه، فرمقني بنظرة من طرف عينه وطلب من صديقه ان يُتابع سيره. عرفت حينها أن ما سمعته عن تكفيره لي صحيح».