ما من حدث بارز ومؤلم في السيرة كالذي حصل في موسم الحج قبل الإسلام وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كحادثة "أبي رغال" ذلك الرجل العربي الخائن، والقصة كما ذكرها الطبري وغيره أن رجلا من ثقيف اسمه أبو رغال أرسلوه مع أبرهة يدله على البيت الحرام لهدمه، فحين حنق وغضب أبرهة الأشرم لتوجه العرب للكعبة أراد أن يحولهم من الحج للكعبة إلى الحج لبيته باليمن المسمى"بالقليس"، فسمع بذلك الخبر أعرابي فثار للكعبة فتبرع لإهانة القليس فغاط في بيت أبرهة ونجسه فأقسم ليهدمن الكعبة، وجهز لذلك فيلا عظيما ولكنه وجنوده لا يعرفون مكانه فالأحباش لا تعرف الطريق لمكة، فكانت الحاجة لدليل ولم يرض بهذا العمل من بين عرب اليمن سوى "أبور غال" فلما وصل مع أبرهة إلى موضع يسمى المغمس مات أبو رغال فصارت العرب ترجم قبره، ولم يكن لأهل مكة وسيدها عبدالمطلب قوة ومنعة لصدّ أبرهة وجيشه حتى أن عبدالمطلب دخل على أبرهة وقال له لي إليك حاجة، فقام أبرهة من مكانه وأكبر مجيء أبي طالب عنده: فقال له أبرهة وما حاجتك: فقال عبدالمطلب إن جيشك أخذ إبلي، فاحتقره أبرهة لظنه أنه جاء ليستشفع له ويرجوه عدم هدم الكعبة فقال عبدالمطلب بلهجة الواثق: يا أبرهة أنا رب المال والإبل، وللبيت رب يحميه، فتعجب أبرهة من جوابه ولم يصده عن هدم الكعبة إلا الطير الأبابيل، فكانت معجزة ودليلا لإعلان كلمة حق "وللبيت رب يحميه"، وكتب التاريخ العربي دوما تشير لحادثة وصنيع أبو رغال باحتقار وازدراء لأنه لم يعرف عن العرب من يخون قومه وبلاده مقابل عرض دنيوي، حتى أطلق لقب أبو رغال على كل من خان قومه لمصالحه. وقصة الخيانة والطابور الخامس اليوم تتمثل في صور عدة، منها أولئك الذين يتاجرون بالتدين بتسويق العناد والإرهاب لخدمة مصالحهم وتوجهاتهم، أرادوا أن يصبغوا الدين بهذه الصبغة وأن يجعلوه سوطا على الجميع، وإن شئت فقل صور الخيانة والإرهاب بالوكالة ما هي إلا مؤامرة دخيلة على وطننا ربما تحركها أفكار أو تمدها أيد خارجية، أو تنفذها اجتهادات غير سوية ولا واعية أو ربما تكون ردود أفعال أو ممارسات لتحريك الماء الراكد أو لنثر الغبار، فالذين يغرر بهم من الشباب في أعمال تخريبية هم في الحقيقة لم يربوا التربية المنهجية العلمية القائمة على احترام المخالف والبعد عن العنف والتكفير، أو لأنهم وصلوا ربما إلى طريق مسدود لم يتحملوا ما يمّرون به من مشاكل أو أزمات، ولن نبالغ في قولنا: إن سعادة الإنسان وتوازنه هما الوجه الآخر لإحساسه بكرامته في وطنه وإعطائه حقوقه، وحين أتأمل موضوع الخيانة للوطن أتذكر قصة الوفاء الذي اشتهرت به الكلاب لسيدها، وكتب عنها ابن المرزبان المحولي في كتابه "تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" تلك القيمة الأخلاقية التي لا تعيش في فكر وأخلاق الماديين والنفعيين والمأجورين. والحديث عن الإرهاب بكل أنواعه صعب كونه أصعب مصطلح في تاريخ الدول البراجماتية والنفعية، والذي يتلون وتتعدد مفاهيمه بناء على المصالح السياسية والثقافية فقط، فقضايا الإرهاب المنتشرة في المملكة والخليج والتي أدت إلى ظهور جماعات متطرفة كداعش وغيرها، تجعلنا أمام طرح تساؤلات جريئة شفافة يطرح فيها التردد والتجزئة جانبا لنواجه الأمور مواجهة مباشرة متكاملة الأبعاد. وما دامت السعودية نقطة سلام وشمعة مضيئة بين جيرانها ولمن حولها، فمن الطبيعي أن يحدث فيها ما يحدث في العالم فهي ليست استثناء من امتداد خيوط العنف والتخريب، وطبيعي أن تتأثر يوما بفيروس محيط بها حتى إذا دخل وتمكن داخل جسدها، أيكون من الصواب حينئذ أن نلوم الهواء أم نوقع اللوم على جهاز المناعة الداخلي؟. والناظر لشبكات الإرهاب والخيانة حولنا يجد أن كل فكر متطرف يكون بداية ترعرعه في داخل دائرته ومحيطه، ربما لجهلها أو لإحساسها بغياب العدالة الاجتماعية مثلا أو غياب حدود الحياة الكريمة، ولعل شاهد أبي رغال يظهر بجلاء من أولئك الصفويين الذين يسعون لخدمة المشروع الصفوي في المنطقة فما أحداث العوامية والحوثيين والتكفيريين ببعيد، وأظن أن دور المملكة في صد هؤلاء يكون بالتركيز بجدية وبفاعلية على تقوية البنية واللحمة الداخلية، وجمع الكلمة، ودعم الشباب وتمكينهم وهدم منافذ القهر، وبسط الرخاء الاجتماعي فهي مركز قوة الدائرة ودرعها الواقية لسلامة الوطن، والصخرة الصلبة التي تتحطم عليها جميع المحاولات التي تضر بالمصالح الوطنية... حفظ الله مملكتنا وخليجنا من الخائنين ومن فكر وكيد أبي رغال وزمرته وأعوانه في الداخل والخارج. * الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل