فهناك ما هو أهم وأولى، فالدقائق في هذه الأيام المباركة ليست كالدقائق في الأيام العادية، والثواني في هذه العشر الأخيرة من رمضان ليست على هامش الزمن، ودائماً ما كنت أحرص على أن يكمل القارئ المقال إلى نهايته ولكني الآن أتمنى أن يقف هنا ليمسك بالمصحف ويستغل هذه الأجواء الروحانية في قراءة عذبة متدبرة ينكب فيها على الآيات بقلبه وعقله وجوارحه، ويغادر ماديات الحياة ليرجع إليها كما يجب أن تكون العودة، فهذه الأيام أشبه ما تكون بمحطات الوقود والصيانة التي تعيد ترتيبنا من الداخل، وتتفقد أعطالنا ومفاصل الخلل في أنفسنا، وتعيد تعبئة خزانات الوقود الفارغة لننطلق من جديد في رحلة انسجام جديدة مع الحياة تليق بالمسلم المتوازن الذي يدرك أن قوته في الخارج امتداد لقوته في الداخل. كان العلماء قديماً يوقفون دروسهم العلمية ليتفرغوا للقرآن والذكر، ويعتزلون تفاصيل اليوميات المعتادة ليطيلوا صلاتهم في ليالي العشر المباركة، وكان نبينا العابد الشاكر محمد صلى الله عليه وسلم يحيي ليله ويوقظ أهله ويشد مئزره، ففي مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام ستتعلم أنك تعيش أهم ليالي السنة وأثمنها. الخيل الأصيلة تزيد من تسارع ركضها في المنعطف الأخير من السباق، وها هو رمضان يدخل في شوطه الأخير الثمين، والسباق على الرضوان في ذروته، فأظهر لله من نفسك خيراً، وهذه اللحظات المهيبة قد تعود وقد لا تعود. هذه الأيام فرصة استثمارية كبرى لتوسيع مساحات الاتصال بينك وبين السماء، وحبال الدعاء المرفوعة للأعلى هي أعظم الوثائق التي تستنزل بها الرحمات، ولن تجد أجمل من هذه الأوقات لتتذوق حلاوة المناجاة، ولذة التخاطب مع ربك الودود، الذي يتنزل في كل ليلة عارضاً رحماته وغفرانه لمن رفع الدعوات إلى الأعلى، فكم من عابد لا يشعر بمن حوله وهو يناجي مولاه بلذة الدموع وبجمال الخضوع وبهيبة الخنوع. أرقى حالات الإنسانية عندما يتهاوى جبين المسلم على الأرض ساجداً، يستحضر شرف العبودية بين يدي خالقه العظيم، ويغتسل من أدران الدنيا في حضرة السجود الصادق، ليجدد فروض العبودية والطاعة لخالقه الرحيم الغفور. ابحثوا عن قلوبكم في هذه الأيام العظيمة، فمن وجدها فقد ربح.