من الأمثلة على الخلل في منهجية الاستشراق في مناقشة مصدر القرآن الكريم أن (جورج سيل) في ترجمته للقرآن، حينما زعم "أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤلف القرآن الكريم والمخترع الرئيس له، وأنه حصل على معونة غير يسيرة في خطته تلك" استدل بمجرد معارضة قومه له واحتجاجهم عليه، وأقام من مجرد تلك المعارضة دليلاً ناجزاً لصحة ما ذهب إليه وما قرره وزعمه!. بينما المنهج العلمي يلزم (سيل) أن يستكمل المناقشة ويستقصي هذا الاعتراض؛ ليوضح لقارئه نهاية الدعوى التي أشار إليها وبنى عليها استنتاجاته، ولكن كما وصف أحد الباحثين هذا الخلل في منهجه ومَنْ تابعه من المستشرقين بأنهم: (يضعون الفكرة أولاً ثمَّ يبحثون عن أدلة تؤيدها مهما كانت واهية، ويلجأون إلى الاعتماد على أسلوب المغالطات واقتطاع النصوص والحوادث التاريخية وفقاً لأهوائهم ونزعاتهم، وهذا عكس المنهج العلمي في الاستدلال)، ولو أنَّ (سيل) التزم المنهج العلمي لذكر رد القرآن الكريم على مشركي مكة آنذاك، ولعله عرف كيف يؤثر القرآن الكريم بقوة حجته وبيانه وجلائه للحق، فترك هذا الجانب وفعله هذا يجافي المنهج العلمي الصحيح في الاستدلال، كذلك احتجاجه باعتراض قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بداية الأمر دون متابعة تطوراته والأحداث المصاحبة للتنزيل منذُ بدايته حتى تمامه، أما توقفه عند ذلك التاريخ فقط فهو افتِئاتٌ على الحقيقة التاريخية؛ لأن الدعوى التي أثارها واحتج ببدايتها كانت نهايتها التاريخية ظهور الحق وعلو كلمة الله، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ونزول قول الحق تبارك وتعالى: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فقد نزلت هذه الآية بعد أن ثبت للأمَّة بأسرها أنَّ القرآن الكريم كلام الله، أوحاه إلى نبي الرحمة والهدى، وأن اعتراضات مشركي مكة ودعاواهم تهافتت، فنَّدها القرآن الكريم بالحجة العقلية والمنطقية وبالدليل والبرهان، وكذبتها الوقائع التاريخية. هذه الشبهات الاستشراقية حول مصدر القرآن الكريم ونبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي تكرار لما أثاره المشركون ودحضه القرآن الكريم حين التنزيل، وهي كذلك اجترار لما سُبِقُوا إليه في كتب الجدل والمناظرات التي بدأ بها بعض أهل الكتاب في الرد على الإسلام، وأولهم (يوحنا الدمشقي) من قبل ألف عام - بحسب تعبير جواد علي في كتابه تاريخ العرب في الإسلام(ص26) -: "ويعد يوحنا الدمشقي ممهد الجادة للمستشرقين بتحاملهم على الإسلام، فأكثر ما يزعمونه ويذكرونه عنه، هو مما كان قاله ودونه قبلهم بما يزيد على ألف عام". لعل هذا الحديث يقود إلى منهجية الرد على تلك الشبهات التي بثها المستشرقون في ترجماتهم للقرآن الكريم، وفي دراساتهم حوله وحول الإسلام بعامة، ولا شك أن هذه المنهجية مؤصلة في مؤلفات علماء الأُمَّة في تاريخها القديم والحديث التي أساسها الكتاب والسنَّة، وما استوجبه التصدي بالرد والتفنيد لما أثاره بعض أصحاب الفرق والطوائف والفلسفات الغنوصية المعادية للإسلام، التي شككت في الوحي وفي نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي مصدر القرآن الكريم وتعاليم الإسلام في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، فصنف العلماء كتباً مستقلة في الجدل والمناظرة، وبعضهم تطرق للرد على تلك الشبهات في فصول من مؤلفاتهم الموسوعية والمطولة، وباتت تلك المؤلفات تحتل ركناً بارزاً في المكتبة الإسلامية، وتنطوي على المنهجية العلمية الفذة الصارمة في دحض الشبهات الاستشراقية جملةً وتفصيلا، ولا يمكن الإلمام بها هنا، ولكن يمكن الإشارة لركيزة منهجيَّة طبقها علماء الأُمَّة الإسلامية في الاحتجاج على الطوائف التي أثارت بعض الشبهات على عقائد الإسلام وتعاليمه وهديه، فقد كانوا يردون على بعضهم بما يقول بعضهم الآخر، ويحتجون بما تورده طائفة من الحق أو ما هو أقرب إليه على الطائفة الأخرى؛ حتى تضيق دائرة الخلاف ويُجْتلى الحق من خلال تحرير محل النزاع في أضيق دوائره. هذه الركيزة من أهم الركائز المنهجية في سياق الحوار مع المستشرقين، فيرد على بعضهم بما قال بعضهم الآخر، وفيما رُدَّ به على المستشرقين من غيرهم في إطار موضوعي علمي منهجي، مع الاهتمام بآداب الحوار ومنطلقاته وأدواته وأخلاقياته وإدراك التحولات في المسارات الاستشراقية على المستوى الشخصي وعلى مستوى المسار العام للحركة، وأن تكون المجادلة معهم بالتي هي أحسن تحقيقاً لقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قال الشيخ ابن سعدي في تفسيرها:"ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وألا يجادلوا، إلا بالتي هي أحسن بحسن خلق ولطف ولين كلام ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك، وألا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة، وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق" ومن الملحوظ أن تفسيره هذا قد اشتمل على منهجية وافية في المناظرة والمجادلة والحوار. كذلك ينبغي الاهتمام بالمنصفين منهم والإشادة بهم كما في قول الله عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) وختاماً فإن ترجمات القرآن الكريم التي يضطلع بها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة المنورة، وما أنجز منها إلى اللغة الانجليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات العالمية الحية لها أكبر التأثير في التواصل مع الأمم والشعوب وإبراز حقيقة النبوة والرسالة، وكون القرآن الكريم صادرا عن الله وأنه كلام الله أوحاه إلى عبده ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبذلك تردم الفجوة التي أحدثتها الترجمات الاستشراقية التي حالت دون معرفة هذه الحقيقة ردحاً من الزمن.