ظهرت في القرن الثالث من الهجرة بعض الفئات المتأثرة بالفلسفة اليونانية وغيرها، وانعكس هذا التأثير في جوانب مختلفة من الفكر، كان من أشدها تحدياً للفكر الإسلامي إنكار الغيبيات، مما جعلهم ينكرون بعض ما ورد في السنة من الأخبار عن أمورٍ مغيبة، وحداهم ذلك إلى القدح في السنة إما من ناحية السند أو من ناحية المتن، وقاموا بنقد بعض الأحاديث الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح في هذا المضمار، ولكن تصدى لهم علماء الأمة، فدحضوا ذلك التيار وأعادوا للسنة النبوية مكانتها، وخرج الفكر الإسلامي منتصراً بالاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفقاً لمنهجية علماء الأمة المحققين. وقد تكرر هذا التحدي مرة أخرى في العصر الحديث، بسبب احتكاك الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية وثقافتها، وتمثل هذا التحدي في دراسات بعض المستشرقين، حيث أثاروا بعض الشبهات التي هي في حقيقتها الشبه القديمة ذاتها؛ أعادوا طرحها بأساليب جديدة ومتنوعة تحت غطاء المنهج العلمي في التحقيق والنقد، بيد أن علماء الأمة تصدوا لها مرةً أخرى، وردوا عليها وربطوها بما سبق من مناهج قاصرة عن فهم المنهج الإسلامي في الرواية، بل تعالت أصوات بعض المستشرقين المنصفين بنسف تلك المناهج المصطنعة وبخاصة منهج (جولد زيهر)، الذي تعقبه المستشرق (فيتز جيرالد) مؤكداً أن المنهج العلمي في الغرب تجاوزه، وإن كان الحديث في سياق آرائه حول الشريعة الإسلامية وصلتها بالقانون الروماني إلا أنه ينسحب على منهجه بعامة. يؤكد الباحثون المختصون أن الذين توافروا على دراسة السنة النبوية من المستشرقين كانوا قلة، مثل المستشرق(دوزي) والمستشرق (جولد زيهر) والمستشرق (يوسف شاحت). وقد خلصت دراساتهم إلى نتائج خاطئة، وخلطوا الباطل فيها بالحق، وتعثرت تلك الدراسات وأخفقت في نهاية الأمر. وإذا كان المستشرق دوزي في كتابه (مقال في تاريخ الإسلام) لم يحسم القضية بالشك في الحديث النبوي الشريف؛ ومن أجل ذلك وُصِفَ بسخرية بأنه ما زال يثق في صحة الحديث النبوي، فإن المستشرق (جولد زيهر) بدراساته المتمثلة في القسم الثاني من كتابه (دراسات محمدية) انتهى إلى الشك في الحديث، وصاغ جملة من المزاعم ليهدم بها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ومما يؤسف له أن دراسات (جولد زيهر) في العلوم الإسلامية بعامة، وفي الحديث النبوي الشريف بخاصة، احتلت مكانةً مرموقة في الأوساط الاستشراقية، إذ وُصِفَ بأنه: (حدد مسار البحث في دراسة الحديث الشريف تحديدا حاسماً)، وقد اعتمدت دائرة المعارف الإسلامية التي أنجزها لفيف من المستشرقين في مادة حديث على أبحاثه في المقام الأول، وجاءت مشحونة بالأباطيل والشبهات المتنوعة، منها ما يقدح في الأسانيد، ومنها ما يقدح في المتون، وقد أُوكِلَ تفنيد هذه الأباطيل والرد على تلك الشبهات إلى الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - فقام بذلك خير قيام في تعليقه الضافي على مادة (حديث) في الترجمة العربية لتلك الدائرة التي قامت بها دار الشعب بمصر. ثم جاءت دراسات (يوسف شاخت) ليوجه سهام الطعن في السنة النبوية، وبصفة تفصيلية أكثر من أستاذه (جولد زيهر) انتهى إلى القول: (بأنه لا يوجد حديث واحد صحيح وخاصة الأحاديث الفقهية)، وأصبحت دراسات هذين المستشرقين من المصادر الأساس لمن جاء بعدهما من المستشرقين. أما النتائج التي توصلا إليها فإنها نتائج متعسفة، أنتجتها الضغائن والأهواء والارتباط بالأيديولوجيات المعادية للإسلام أكثر من كونها نتائج علمية، توصلا إليها بالبحث العلمي النزيه، هذا ما أثبته النقد العلمي الذي اضطلع به بعض علماء الأمة الإسلامية المختصون، فقد أثبتوا أن مناهج (جولد زيهر) و(يوسف شاخت) يعتورها الخلل والضعف والتخلف عن مسار البحوث والاكتشافات الجديدة، التي زعزعت تلك المناهج ووصمتها بالتخلف والغرض.. وبسبب التأثر بالمنهج الاستشراقي والتتلمذ على دراسات (جولد زيهر) وتلميذه (يوسف شاخت) انبرى من أبناء الأمة الإسلامية من يطعن في السنة، أو يدعو للإساءة إليها وإلى قائلها، أي إلى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سماجة وسذاجة وبجاحة عكست ضغائن الأساتذة المستشرقين!! والنظر في هذه الإشكالية يتأتى من جانبين. الأول: من حيث الأحكام الشرعية المترتبة على الطعن والإساءة، ومرد ذلك إلى علماء الأمة للفتوى فيه. أما الجانب الآخر فيتم من خلال الالتزام بأصول البحث والمناظرة، وهذا في حق من يبحث ويناقش ليصل إلى الحقيقة، ولا شك أن الالتزام بأصول البحث والمناظرة، سيفضي بإذن الله تعالى لمعرفة الحق واستجلاء منهج علماء الأمة في المحافظة على سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - وأنه منهج متفرد، يُعَدُّ بمثابة التاج على رأس الأمة الإسلامية، وهذا ما اعترف به المنصفون، وأكدوا أن النقد التاريخي قد أفاد من ذلك المنهج، الذي سبق إليه علماء الحديث في نقد الرواة وبيان حالهم. وعلى أية حال، فإن تلك الجهود تعززت بما أفاء الله به على الأمة من وسائل حديثة، تمثلت في الحاسبات الآلية التي سُخِّرت لحفظ كتب السنة، حتى أصبح من الميسور جداً البحث في آلاف الكتب من كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتراجم والمعاجم وغيرها، وأصبح من اليسر بمكان على طالب العلم أن يرجع لأي حديث أو أثر في جميع كتب السنة، ليتمكن من الوقوف على مدى صحته وما قيل فيه، ويعرف رجاله وطرقه والكتب التي ذكر فيها، وهذا من توفيق الله، فله الحمد والمنة.