كنت قد كتبت مقالة الأسبوع الماضي متداخلاً مع الدكتور تركي الحمد حول قراءته لثورة الياسمين في تونس ووعدت بأن أطرح في هذا الأسبوع شواهدي حول طبيعة الثورة التونسية. أول شواهدي على خطأ قرأه الدكتور الحمد هو طبيعة الدور الذي لعبه الجيش التونسي في ثورة الياسمين.. إذ تمثل هذه الثورة حالة فريدة في الأدوار التي تلعبها الجيوش العربية في إزاحة نظام وإبدال آخر مكانه. ففي جميع الحالات التي تدخّل فيها جيش عربي لإزاحة نظام سياسي، كان الجيش هو من يستلم السلطة. ولا يخرج تدخّل الجيش للسلطة عن نمطين: الأول يستلم الجيش السلطة مؤسساً لنظام سياسي جديد يكون فيه ضباط الجيش هم الحكام الجدد حيث تحوّل الدولة لخدمة بقائهم في الحكم، كما كان الحال في الانقلابات التي شهدتها مصر والعراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا وحفنة لا أذكر عددها من انقلابات موريتانيا. وهذا النمط يتوافق تماماً مع ما قرأة الدكتور الحمد. النمط الثاني يقلب الجيش حكماً منبوذاً شعبياً ويستلم السلطة ممهداَ للانتقال إلى نظام حكم مدني خلال فترة انتقاله مداها سنة يتم خلالها انتخاب حكومة مدنية، كما حصل في السودان عام 1985 وموريتانيا عام 2005، وهما تجربتان انتهتا بانقلابين عسكريين أطاحا بالأنظمة المدنية المنتخبة في هذين البلدين. لم تخرج ما سميت بالثورات في العالم العربي عن هذين النمطين. ما شهدناه في تونس حالة جديدة لا تنتمي إلى أي من النمطين. إنها حالة ينحاز فيها الجيش لمطالب شعب ثائر بإزاحة النظام الحاكم لكن دون أن يستلم السلطة فعلياً. ورغم أن الحكم لا يزال فعلياً بيد رئيس وزراء بن علي، لكن لنلاحظ حجم التغييرات في بنية الحكم منذ مساء 14 يناير إلى اليوم، من قبيل استقالة الرئيس المؤقت ورئيس الوزراء من الحزب الحاكم ثم إعادة تشكيل الحكومة مرتين ثم استقالة كل الوزراء المتبقين في الحكومة من الحزب الحاكم السابق ثم تعهّد رئيس الوزراء باعتزال السياسة بعد الانتخابات. تدل هذه التغيّرات على أن الشعب هو العامل الرئيسي في تصميم الشكل الجديد للدولة التونسية وليس الجيش. ولعل مشهد الجنرال رشيد عمار وهو ينزل إلى المعتصمين أمام مقر الحكومة الأسبوع الماضي طالباً منهم أن يصبروا على الحكومة ومتعهّدا بأن يكون حكماً بينهم وبين الحكومة، بدلاً من أن يكون هو الحكومة، ما يدل على دور غير معهود لجيش عربي كان هو العامل الحاسم في إبدال نظام حكم بآخر. ثاني شواهدي يتمحور حول مفهوم العولمة.. وتلعب وسائل الاتصال دوراً في صياغة الإطار المفاهيمي للافراد، فمفردات الحرية والكرامة والديموقراطية كانت على ألسنة الشباب التونسي بدون الحاجة إلى تربية حزبية أو الانتظام بمؤسسات تعليم راقية، إنه تشرّب لقيم الحداثة عبر التواصل المستمر مع العالم الذي وفرته وسائل الاتصال. هذه المفاهيم جعلت الافراد يؤمنون بكينونتهم، بقدرتهم على تغيير واقعهم. لذا لم تكن الخطوات التي اتخدت يومي الجمعة والسبت، يوم فرار بن علي الذي تلاه بكافيتين بالنسبة للثوار الذين واصلوا مثابرتهم على حماية ثورتهم متحسّسين من سرقتها. في هذا السياق تبدو المؤسسات السياسية القائمة من حكومة وأحزاب وحركات وحتى نقابات، مندهشة من الوعي السياسي لعموم الجمهور. وعي بدا وكأنه بزغ فجأة وانبعث من صدور كانت العولمة الاتصالية تنسج فيها خمائر القناعة بأن الانسان قادر بنفسه على صناعة قدره. الشاهد الثالث يكمن في التحوّل الحاصل في طبيعة المؤسسات العسكرية وعلاقتها بالمجتمع. إذ يبرز تيار في التحليل الاستراتيجي يرى أن التقنيات الجديدةالداخلة على الجيوش ومفاهيم الحرب مثل الربط بين الأسلحة ووسائل الاتصال الأشد حداثة كالاقمار الصناعية وبرامج معالجة البيانات ووسائل التحكم عن بُعد تغيّر من علاقة الجيش بالمجتمع. إنها ترفع منسوب الاحترافية بالجيوش لتصبح أشبه بالشراكات وقطاعات المال مبنية على أسس الإتقان والإنجاز والاحترافية أكثر مما قبل فيصبح عالمها الاحترافي متزايد المتطلبات والتخصص مما يؤذن بانحسار دور تلك المؤسسات على مجتمعاتها. ومثلما انهار نظام الفرسان الاقطاعي، بسبب دخول الاسلحة النارية، ستنهار المنظومة العسكرية القديمة إن لم تحدّث نفسها. ولكي تحدث المنظومة العسكرية نفسها تحتاج إلى تغيير في العقيدة العسكرية يجعلها أقل ميلاً للعب أدوار خارج مجالها الاحترافي مقللة حضورها في المجتمع أو ميلها للسيطرة عليه. وبناء على ذلك، فإنه يتوقع أن تتضعضع الشرعيات الثورية والشمولية القائمة على القمع المباشر وتنهار معها النظم البوليسية، وهو ما نشهد له الآن بواكير في اكثر من بلد عربي. وبناء على هذا التحليل، لا يبدو أن الجيوش الأكثر تواؤماً مع التقنيات العسكرية الحديثة ميالة لأخذ مقاليد الحكم في المجتمع، كما كان الحال إبان حقب أذن الله بزوالها. [email protected]