كتب الدكتور تركي الحمد مقالا مثيرا في جريدة الوطن يوم أمس الاثنين بعنوان “من الثورة إلى الانقلاب ومن الانقلاب إلى الثورة”. يقرأ المقال المآلات المحتملة لثورة الياسمين التونسية. يرى المفكر السياسي اللامع أن دبابات العسكر ستنهي في الأخير ثورة الياسمين وأن الضعف الحكومي القائم والفوضى المتنامية ستدفع المؤسسة العسكرية القوية في دولة عالمثالثية ذات تقاليد بوليسية إلى استلام مقاليد الحكم في النهاية بحجة منع البلاد من الانزلاق في أتون الفوضى. بالتزامه الأكاديمي الصارم, يمهد الدكتور تركي لمنظوره باستعراض محكم لسيناريو ثلاث ثورات شهيرة, الفرنسية ثم الروسية فالإيرانية, سارت الأمور فيها جميعا على نسق متشابه يبدأ بثورة الشعب على طغيان الحكم القائم وفساده وقسوته ثم الإطاحة بالحكم ثم الفوضى ثم سرقة مؤسسة اجتماعية قوية, الجيش أو حزب منظم قوي أو مؤسسة دينية متغلغلة في المخيال الشعبي, للثورة بانقلاب ينصب هذه المؤسسة حاكما أوحد يعيد الأمور إلى سابق عهدها إن لم يدفع بها إلى مهاوٍ أفظع مما كان قائما من قبل. في بعض البلدان, كما في الحالة الفرنسية والروسية والعرض دائما للدكتور تركي, يأتي انقلاب شعبي يصحح الأوضاع لكن بعد معاناة طويلة وكبيرة, كما هو الحال في روسيا التي قبعت سبعين عاما تحت نير حكم شمولي قاسٍ وكما هو متوقع لإيران في القادم من الأيام. ورغم أن نذر الفوضى تتصاعد في تونس في هذه اللحظات مما يدعم منظور الدكتور تركي, لكني أعارض قراءته للحدث التونسي واضعا إياه في نسق مخالف لما عرضه وسأبين في هذا المقال قراءتي المخالفة ومسوغاتها. ثورة الياسمين, فيما أرى, توضع ضمن سياق مختلف عما وضعها عليه الدكتور تركي. فبدلا من وضعها ضمن سياق الثورات الدموية العنيفة والقديمة أيضا, يمكن وضع ثورة الياسمين ضمن سياق الثورات الأقل عنفا والأكثر حداثة, كما حدث في أوروبا الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي. في هذا النوع من الثورات, لا تتم إعادة إنتاج للقمع والقهر السابقين اللذين ولدا الثورة الأصل, بل تتم حالة تحرك للتاريخ ينتقل فيها المجتمع من نموذج للحكم إلى آخر مختلف تماما. ويمكن اقتراح العديد من الأسباب التي تولد هذا النوع من الثورات. لكن ما يهمني, بصفتي الأكاديمية كمتخصص في علم الاجتماع, هو علاقة المنظومة القيمية للشعب بكل ما يحدث وقدرة هذا العامل على تفسير النموذج الثوري في هذا البلد أو ذاك. هذا النموذج من الثورات, الثورات التي لا تفضي إلى إعادة إنتاج لديكتاتورية سابقة بل إلى تحرك في مسار التاريخ, يحدث لشعوب وصل نسقها القيمي لحالة لفظ تام لنمط الحكم الشمولي وعدم قدرة هذا النسق على التكيف مع ذاك النمط, كما حدث في أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينات القرن الماضي. هذا النموذج من الثورات, الثورات التي لا تفضي إلى إعادة إنتاج لديكتاتورية سابقة بل إلى تحرك في مسار التاريخ, يحدث لشعوب وصل نسقها القيمي لحالة لفظ تام لنمط الحكم الشمولي وعدم قدرة هذا النسق على التكيف مع ذاك النمط, كما حدث في أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينات القرن الماضيوإذا كان الدكتور عرض لثلاث ثورات قديمة وعنيفة وتجميدية بحق التاريخ لاستنتاج مسار تنبؤي لثورة الياسمين, فإنه يمكنني, بالاتكاء على المقالة الاستعراضية الممتازة لعبير جابر في موقع إيلاف, إيراد شواهد كثيرة على نموذج مغاير من الثورات, نموذج ينقل الدولة والمجتمع إلى فضاء ديمقراطي حقيقي. فالبرتغال شهدت ثورة القرنفل سنة 1974 والتي قضت على الديكتاتورية ونقلت البلاد إلى حالة ديمقراطية, رغم أنها تتشابه مع انقلاب يوليو المصري في كون العسكر هم من بدأوا التحرك لا الشعب. لكنها وبعكس ذاك الانقلاب, أدت إلى تحرك في مسار التاريخ البرتغالي لجهة النموذج السياسي القائم. ما الذي جعل عسكر برتغال 1974 غير عسكر مصر 1952؟ يمكن أن يكون الجواب في تحليل درجة التقدم التي وصل لها المجتمع البرتغالي في تلك اللحظة مقارنة بنظيرتها لدى المصريين في خمسينيات القرن العشرين. في 2003, قامت ثورة الزهور في جورجيا. وفي 2005, اندلعت الثورة البرتقالية في أوكرانيا. وفي كلتا الحالتين, كانت الثورة تخلو من العنف, اللهم إلا عنف جرى من قوات الأمن على المحتجين كما الحال في الثورة الأوكرانية, وأفضت إلى تحرك في التاريخ. كما هو الحال في نموذج ثورات أوروبا الشرقية أو في الشواهد أعلاه, يصل شعب ما لحالة تناقض بين درجة تنظيم على أسس حديثة تعلي من مفاهيم الفردية والحرية وبين واقع حكم شمولي قمعي فتندلع الثورة التي تكون في هذه الحالة حركة في التاريخ لا إعادة إنتاج لنموذج سابق. تمثل الحالة التونسية امتدادا لهذا النموذج ما هي شواهدي؟ سأطرحها في مقال الأسبوع القادم.