قلبي مع الشباب المصري، وخوفي على مصر، الباسمة الضاحكة دوما حتى في أحلك الظروف وأسوأ الأحوال! مصر، التى لا تعرف النوم ولا السكون والحزن، رغم كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمسك بخناق المواطن المصري، إلا أنه دائما مبتسم، والنكتة حاضرة على أطراف شفتيه. ربما هذا الذي جعل مصر قبلة السياح أجانب وعربا، ومتعة للسائح الخليجي رغم تذمره من مشكلات السكن والمرور، ومحاولات الاستغلال، وكل ما يكدر صفو السياحة إلا أن مصر تبقى هي الاختيار الأول والأخير الذي يرضي الأذواق المختلفة لأفراد الأسرة صغارا وكبارا. قالت لي سيدة سعودية متقدمة في العمر قابلتها في مصر بعد عودة الأسرة من رحلة صيفية إلى سويسرا: جئت أحلي بمصر! فهي تعتبر أن رحلتها لا تكتمل إلا بمصر حتى لو ذهبت إلى أجمل دول العالم، وكذلك معظم السعوديين يعشقون مصر، ربما لذلك كلنا مشغولون بما يحدث على أرضها منذ 25 يناير 2011 حتى الآن. دائما أخبار مصر، وما يحدث فيها، من حراك سياسي، اجتماعي، وحركة نسائية وطلابية وشعبية، تستأثر بالاهتمام؛ لأن مصر - على مدى عقود أو حقب تاريخية عديدة - مثلت مشعل التنوير، وبوابة الحضارة، والمقدمة لأي تغيير، حتى لو جاءت – هذه المرة – مقدمة التغيير من تونس إلا إن الأحداث في مصر، أو جاذبية الأحداث لها نكهة مختلفة و مذاق غير. انشغلنا بأحداث تونس لا شك في ذلك، لكن ليس كما يحدث الآن، ونحن نتابع أحداث ثورة الشباب في مصر. معظمنا مرابطون أمام التلفزيون، ومعظمنا اكتشف الحياد في بعض القنوات الفضائية والموضوعية، وحول وجهته عن قنوات الانحياز والتعتيم ومحاولة تشويه هذه الثورة الشبابية، انحيازا للسكون والجمود أم ماذا؟! حتى قناة العربية التي كانت الأولى إخباريا تراجعت كثيرا خلال الأزمة المصرية. التظاهر والاحتجاج السلمي حق دستوري، مثبت ومكتوب في دستور الدول الديمقراطية الحديثة، كممارسة ديمقراطية، تقر للشعب هناك بالسيادة، وأنه مصدر السلطة. التظاهرات الأخيرة في تونس ومصر، ضد سلطة الأقلية، والفساد المستشري في الدولة، الذي حرم الأغلبية من الحقوق الطبيعية، والحق في حياة كريمة ليست مغموسة في الفقر والخوف، وتقليص البطالة التي أصبحت مرضا مزمنا مستوطنا في جسد الوطن العربي! الثورة التونسية، وثورة الشباب المصرية، هل تبشران بحقبة تاريخية جديدة، تغير خارطة المفاهيم الثورية، وتمحو صورة انقلابات الجنرالات العسكرية، وتبدل اللون الدموي القاني إلى ألوان الياسمين والبياض. تردد كثيرا وصف الثورة المصرية بالبياض، لأنها سلمية لم تجنح إلى العنف والتخريب، كما حدث في ثورات الماضي؟! الثورات في القرن الماضي، كانت شعبية تحررية ودموية، لأنها ضد عدو محتل، وجهادا من أجل الحرية ودفاعا عن الوطن، كالثورة الجزائرية التي فقدت مليون شهيد والتي شاركت فيها النساء وبقي في ذاكرتنا اسم ( جميلة بوحيرد). الثورة الليبية ورمزها عمر المختار. كذلك في سوريا ولبنان وتونس والمغرب، ثورات تحررية من الاستعمار الغربي الذي جثم على صدر الأوطان العربية ردحا من الزمان، نهب ثرواتها وفرض ثقافته ولغته! بعد ذلك، شهدت بعض دول الوطن العربي انقلابات عسكرية دموية، نتيجة فساد السلطة وتردي الأوضاع الاقتصادية، ما أعطى لتلك الانقلابات شرعيتها ودعمها الشعبي، حتى تمكن الانقلابيون، أو كما يقول المثل الشعبي:( يتمسكن حتى يتمكن) هو هذا الذي حدث، لأن الأوضاع ازدادت سوءا، بعد أن رسخ الانقلابيون دعائم الحكم، واستقرت أجسادهم على كراسي السلطة، ونالوا رضى الشعوب أملا في مستقبل أفضل، وحياة أكرم وأجمل. التاريخ يعيد نفسه، والمُخَلّص يصبح جلادا، ويتحول إلى طاغية، وحاكم مدى الحياة بعد أن يسد كل الثغرات التي أوصلته إلى السلطة، ومكنته من الإطاحة بالطاغية القديم! الانقلابات العسكرية الدموية قامت على مطامع فردية ومن فئة قريبة حد التماس من الأنظمة التي أطيح بها كأفراد من الجيش كما حدث في العراق ومصر وليبيا وسوريا. ليس غريبا إذن أن يصرف الطغاة جل همهم، وتسخير إمكانيات دولهم الاقتصادية والاستخباراتية، للتجسس على المواطنين، وتدعيم المؤسسة العسكرية لترهيب الداخل لا الخارج، أو عسكرة المواطنين للفتك ببعضهم، وبث الخوف في نفوس الجميع والبطش بأي كان إذا ظهرت على سلوكه بوادر تذمر أو نفور حتى لو كان أقرب المقربين وما عهد صدام ببعيد! روح أو سمة هذا العصر، أنه عصر الشباب، سلاحه العلم ومهارات تقنية ومعلوماتية، لذلك لابد أن يكون للغة التغيير خطاب مختلف، وآليات جديدة غير مستعملة ولا مستخدمة في الماضي، كما حدث في التغييرات الانقلابيه، الذي غير الخارطة السياسية في كثير من دول الوطن العربي! رغم الاتفاق بين لغتي التغيير في الماضي والحاضر، على تغيير بعض النظم القديمة المترهلة التي أفسدت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصاديةفي بلدانها، إلا أن لغة التغيير الحديثة،-كما رأينا في مصر- تسمح لكافة أطياف وفئات المجتمع وأفراد الشعب بالمشاركة، لحشد قوة رأي موحد حول الأهداف الرئيسة، والتطلع إلى مستقبل أفضل، أساسه الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة. الاحتجاج السلمي الدستوري، أي يسمح به دستور الدولة، بشرط التخلي عن العنف والتخريب وهو ما التزم به الشباب المصري، الذي مازال صامدا، ليس فقط في ميدان التحرير، بل في ميادين المدن المصرية الكبرى، كالإسكندرية والإسماعيلية، رغم محاولات تشويه الصورة السلمية، والهجوم المسلح، الذي حصد مئات القتلى، وآلاف الجرحى، إلا أن وسائل الإعلام الحديث، نجحت في إظهار الحقيقة، وتنقية سجل الثورة البيضاء من دنس العنف والدموية. كل مايحدث، بالصوت والصورة، كلنا رأينا عربة الأمن المركزي وهي تدهس عددا من المتظاهرين دون رحمة، كلنا فزعنا، وتألمنا، ونحن نرى هجوم الخيالة والهجانة بالأسلحة البيضاء على الشباب العزل في ميدان التحرير، والحجارة المتساقطة عليهم من أعلى الكوبري والزجاجات المشتعلة تسقط قنابل حارقة تشتت جمعهم! هي حقبة جديدة جردت الأنظمة من سلاحها الأمضى « تزييف الحقائق» لم يعد بالإمكان التعتيم أو قلب الحقائق، فالمطالب مشروعة، حقوق مكفولة، أو بلغة السينما ( عايز حقي) هذا ببساطة ما يقوله الشباب المصري في ميدان التحرير وفي كل ميادين مصر! [email protected]