لم أجد، ونحن نستقبل العيد. أجمل من عبارة "السلام عليكم" عنوانا لهذه السطور؛ هذه العبارة التي نقولها يوميا عشرات المرات بشكل آلي يحجب عنا معناها. نقولها مفرغة من دلالاتها الجميلة. مثلما تعيد آلة التسجيل الكلام دون أن تقصد أو تفقه ما تقول. بل إننا نقولها أحيانا ثم نشتبك في شجار يحرق أخضر ويابس العلاقات الإنسانية. ومعنى ذلك أن "السلام عليكم" التي تتردد على الألسنة كل حين ليست سوى عبارة للاستهلاك اليومي، ومقدمة لا ضرورة لها في بعض الحالات؛ عبارة ينطق بها اللسان دون أن تمر بالقلب. كأنها وردة بلا أريج. السلام مرادف للتعايش والحب ومناقض للحرب والكراهية. وبين الحب والحرب إملائيا زيادة أو نقصان حرف واحد، لكن بينهما إنسانيا واجتماعيا مسافات شاسعة حزينة. وقد كان الكاتب التركي عزيز نسين بارعا وهو يسرد حكاية (البغل العاشق) فقد اختار أن يكون الإطار المكاني لتلك القصة وحدة تدريب على الأسلحة الأوتوماتيكية. أي أنه مكان للتدريب على صناعة الموت، وحيّز تفوح منه رائحة البارود. ولا صلة البتة بين رائحة البارود ورومانسية الحب. كان في المعسكر بغل شرس ومزاجي، يعضّ من يمر أمامه، ويرفس من يقف خلفه، ويأبى تحميله أي ثقل. وفجأة تحولت شراسته إلى رقة، وعدوانيته إلى وداعة. هكذا أصبح البغل مطيعا هادئا أليفا ومنتجا، بعد أن حلت في المعسكر بغلة جلبها أحد المربين. خرج الجميع باستنتاج واحد هو أن تغير سلوك ذلك البغل كان بسبب ولهه بأنثاه، وحسب عزيز نسين فقد كان ذلك الحب عذريا، أو أفلاطونيا. لكن، أيا كانت طبيعة ذلك الحب فقد فعل بالبغل ما لم يستطع العنف فعله. الحب في عالم الحيوان ليس ضربا من الخيال. وهنالك قصص كثيرة عن الصداقة والحب بين الحيوانات لا تتسع لها هذه المساحة الصغيرة. وقد سبق بشار بن برد وابن شهيد الأندلسي عزيز نسين في التعبير عن ذلك الحب. لكن هذا ليس بيت القصيد، وإنما المقصود هو قدرة الحب على تغيير رؤيتنا وسلوكنا. أن تحب يعني أن تحتضن العالم كله. وهي الحالة التي عبَّرت عنها كلمات مرسي جميل عزيز وغناها عبدالحليم حافظ مرددا: "يا صْحابي.. يا أهلي يا جيراني.. أنا عايز آخذكم با حْضاني".. لكني أتحدث، هنا، عن احتضان العالم كله، وليس الأهل والأصحاب والجيران وحدهم. أي عن الحب الذي يجعلك تفتح نافذة على الفضاء الرحب، وأن تحلق بعيدا عن دائرة الأَسْر التاريخي والاجتماعي والتربوي الذي يحول بينك وبين إدراك أن جمال العالم في تنوعه. الحب الذي يقاوم أغلال الذاكرة ورواسبها، ويهبك مناعة أو حصانة فلا تلتفت لكائنات البرك الراكدة، ولا تصغي لنعيق غربان الكراهية. عند هذا المستوى من الحب الذي لا يتحقق إلا بالفهم، سوف يشدنا إلى نظرائنا في الخلق هدف مشترك. وحين نقول للآخر أيا كان لونه أو عرقه أو ثقافته: "السلام عليكم".. ويرد قائلا: "وعليكم السلام" فإننا جميعا نعني ما نقول. عيدكم محبة وبهجة.. وكل عام والعالم بخير. [email protected]