لا تركن إلى العين الكليلة، ولا إلى الأذن الطنَّانة، ودع عنك اللسان، وعوّل في هذا الجدل العظيم، على محك العقل وحده». الفيلسوف اليوناني بارمنيدس (القرن الخامس قبل الميلاد) لم يقل لنا بارمنيدس في سياق هذا الوعظ كيف نعوّل على محكّ العقل. «كل المواعظ تنصحنا بذلك ثم تتركنا معلقين بين السماء والأرض. كثيرون هم الذين تأسرهم العبارة، لكنهم يمارسون الحماقةَ وكأنها عين العقل. منهم من هو غارق في مستنقع الخرافة حتى أذنيه. ومن يخشى طرح الأسئلة، ويغفو مطمئنا على وسادة من التفسيرات الجاهزة الساذجة. ومن ينشغل بالهامش عن المتن، أو يلهث راكضا وراء سراب شعارات وأهداف لا تخدم حياته. ومن يخشى النظر إلى وجهه في المرآة، ومن يرتعب من فتح باب خشية أن تتسلل منه الريح. ومن يعلق كل أسباب تخلفه ومآزقه على مشجب قوى أخرى من الإنس أو الجن. ومن يبحث عن مجده بين أطلال الماضي أو أنقاض الحاضر ناسيا أن الإنسان ليس إلا مشروعه الإنساني الخاص. لقنونا منذ كنا صغارا أن «العقلَ السليمَ في الجسمِ السليم». وفي ذلك قولان.. وربما أكثر. فقد يكون الجسم سليما وقويا مثل جسم شمشون، لكن العقل عقل هبنّقة.. ولدينا عبارة أخرى تناقض تلك العبارة هي: «جسم البغال وأحلام العصافير» مع الاعتذار لكل عصافير العالم، والثناء على أحلامهم الجميلة. وفي الذاكرة، كذلك، قول أبي الطيب المتنبي «لولا العقول لكان أدنى ضيغم/ أدنى إلى شرف من الإنسان». ويمكن أن نضيف إلى ذلك اعتراض الكاتب الساخر برنارد شو على تلك العبارة عندما قال: «ليس العقل السليم في الجسم السليم، بل الجسم السليم في العقل السليم». فالعقل، إذن، هو المحور ونقطة الارتكاز. لم يستطع الحواةُ المتلاعبون بالعقول السيطرة على ضحاياهم إلا بأسر العقل وتعطيل قدرته على التفكير؛ إنه شكل من أشكال التنويم المغناطيسي. المشعوذون، كذلك، يراهنون على غياب العقل، ويكسبون من ذلك الغياب أموالا طائلة.. ودخْلُ المشعوذين من جيوب السذَّجِ والبلهاء.. لكن الشعوذة أنواع ومستويات أيضا، فهنالك شعوذة فكرية وأخرى أيديولوجية وثالثة سياسية واقتصادية والقائمة تطول. أما أفضل البيئات لترويج تلك الأوهام فهي البيئات المتخلفة ثقافيا، وإن كانت متقدمة تعليميا أو ماديا. مما يستدعي التمييز بين تحصيل العلم والتعويل على محك العقل. فبين بعض حملة المؤهلات العلمية والعقلانية مسافات حزينة ومظلمة، مما يعني أنه لا الرفاهية المادية ولا حمل الألقاب العلمية يصلحان معيارا للتقدم الثقافي. ووفقاً لرؤية ونستن تشرشل فإن «إمبراطورية المستقبل هي إمبراطورية العقل». «لا تركن إلى العين الكليلة» والعين هنا مجازية، إنها تلك التي قال عنها الشاعر: «وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. كما أن عين السخط تبدي المساوئَ» أما الأذن فلا يركن إليها إلا الأحمق، وذلك على ذمة الروائي الفرنسي بلزاك الذي يقول «يُخَاطَبُ في الرجلِ عقله، وفي المرأة قلبها، وفي الأحمق أذنه»! وبعد، فإنه لو اتَّخذَتْ بعض المجتمعات العقلَ بوصلةً لها لتحررتْ من قبضة التخلف، ولما أعادتْ الحماقةُ نفسها مراتٍ كثيرةً بأقنعة مختلفة. [email protected]