هل طبيعة حياة اليوم وإيقاع العصر يتسببان في إصابتنا بالإحباط؟ الجواب نعم.. للأسف! كثيرون منا يتوقعون أكثر من معطيات واقعهم وظروفهم، فيعيشون لإنجاز أهداف عديدة، ويلهثون وراء آمال كبيرة وتحديات أكبر، ثم يفشلون.. فيُحبَطون. الطُّموح أمرٌ محمود، لكن الطموحات المبالَغ فيها تجعلنا نعيش في حالة دائمة من التوتر وشد الأعصاب، ما ينغِّص علينا هدوء حياتنا ويصيبنا بالشقاء، أو ما يُسمى في عصرنا ب«الاكتئاب». الاكتئاب هو أكثر الظواهر النفسية شيوعاً في العالَم اليوم.. وهو لا يُعدّ حالة شعور بالإحباط وحسب، بل هو اضطراب نفسي يرافقه هبوط عام لمعنويات الإنسان وشعور بالملل، وتشاؤم عارم حيال كل شيء، مع انعدام قدرته على الاستمتاع بالحياة، مقروناً باضطراب النوم وفقدان الشهية وانقطاع العلاقات وانعدام الرغبة في العمل. وقد يدفع الاكتئابُ الإنسانَ إلى الانطواء، وربما إلى إيذاء نفسه، وإنهاء حياته (الانتحار) بعد أن يفقد كل معنى جميل فيها. الإحصائيات العالمية المتصلة بالاكتئاب مخيفة.. الدراسات تقول إن 13 إلى 14 مليون إنسان على هذا الكوكب يصابون بالاكتئاب سنوياً. وتقول أيضاً إن 7 من كل 100 من سكان العالم يصابون بالاكتئاب بعد بلوغهم 18 عاماً في أي مرحلة من عُمْرِهم، وأن 80 بالمائة من المصابين بالاكتئاب عالمياً لا يُعالَجون، وأن أكثر من 15 بالمائة من الشعوب المتقدّمة و11 بالمائة من الشعوب النامية مصابون بالاكتئاب. كما تشير الدراسات إلى أن 15 بالمائة من المصابين بالاكتئاب في العالَم يُقْدِمون على الانتحار، فينتج عن ذلك ما يقرب من 850 ألف حالة وفاة كل عام. وفي الولاياتالمتحدة وحدها، وُجِدَ أن 80 بالمائة ممن انتحروا كانوا مصابين باكتئاب حاد. لذا يُعدّ الاكتئاب ثامن أكبر سبب للموت في أمريكا، ما يقود إلى القول إن الاكتئاب أكبر مشكلة نفسية قومية أمريكية. وأكثر النتائج الإحصائية إحباطاً كانت تشير إلى أن 54 بالمائة من الناس يعتقدون أن الاكتئاب ناتج عن ضعف في شخصية الإنسان. أي أن معظم الناس يعتقدون أن الاكتئاب «شوية دلَع»، وأنهم يجهلون أن الاكتئاب مرض نفسي له مضاعفات عضوية خطيرة، ويجب علاجه. ومن الصاعق معرفته أن المعاناة التي يجلبها الاكتئاب للإنسان توازي أو تفوق المعاناة التي تسببها كافة الأمراض العضوية التي عرفها الإنسان.. وتشير الدراسات إلى أنه بحلول عام 2020م، سيصبح الاكتئاب ثاني أكبر مرض قاتل في العالَم بعد أمراض القلب مباشرةً. ومقابل كل رجل يصاب بالاكتئاب، تصاب امرأتان بالمرض ذاته، إذ إن الاكتئاب يصيب النساء أكثر من الرجال، وأن نصيب المرأة المتزوّجة من الاكتئاب أكثر من غير المتزوجة، وذلك بسبب فشل العلاقة الزوجية، والطلاق، أو وفاة الزوج أو أحد الأبناء، وغيرها من المآسي الأُسَرِيّة. إدارة الإنسان في هذه الحياة لتوقعاته بشكلٍ واقعي أمر مهم لحصوله على حياة سعيدة. إننا نصاب بالإحباط، وربما الاكتئاب، لأن توقعاتنا تكون كبيرة فيخذلنا واقعنا، فلا يتحقق منها شيء. وهذا يحدث كثيراً لنا ويسبب لنا اختلالاً في «معادلة السعادة»؛ فالسعادة تساوي النجاح مقسوماً على التوقعات، وكلما كانت التوقعات معقولة (متواضعة نسبياً) زادت فرص سعادتنا، إذا افترضنا تساوي نسبة النجاح في كل الحالات.الكاتبة الأمريكية «إليزابيث فيرتزل» كانت ممن نلن حظاً وافراً من الاكتئاب، واستطاعت بجرأة تسجيل تجربتها معه في كتاب سمَّته «أُمَّة البروزاك»، نُشِرَ في عام 1995م، وهو لا يُروِّج إطلاقاً لعلاج الاكتئاب الشهير (بروزاك)، كما لا يتحدث عن الاكتئاب في الشعب الأمريكي، ولكنه مجرد سرد لذكرياتها مع الاكتئاب الحاد الذي عانت منه. تقول فيه إن كتابها: «مجرّد ذكريات لا تحمل أي فكرة رئيسية أو قضية مهمة.. إنه مجرد حكاية شخصية لبنت تعيش في جحيم نفسي». وهي تعزو اكتئابها إلى الظروف السيئة التي عانتها في حياتها، وليس إلى أي اختلال وظيفي في جسمها أو عقلها. لقد شهدت انفصال أبويها، ثم فراق والدها بعد أن أعطت المحكمة حق تربيتها لأمها التي لم تكن تهتم بها كثيراً، والتي كانت تعاني دوماً من مشكلات مالية بسبب بطالتها. كما هجرها خطيبها دون سبب بعد علاقة طويلة، فوقعت في إدمان المسكرات والمخدرات، وفي انحرافات أخلاقية شتى. وعلى عكس ما يحمله عنوان قصتها (أُمَّة البروزاك)، إلا أن نهاية القصة لا تُظهِر أي شيء مهم ذي صلة بعلاج الاكتئاب المعروف ب«بروزاك»، فهي تقول إن: «بروزاك كان معجزة أنقذت حياتي وأخرجتني من حالة الإحباط الدائم». إلا أنها تعود لتقول في جملة مُحيِّرة: «حبة البروزاك لا تجعلك سعيداً، ولكنها لا تجعلك تشعر بأنك غير حزين». ثم تعترف صراحة في النهاية بأن هذا الدواء لم يفدها كثيراً، وأن الدعاية المصاحبة له أكثر من حجم مفعوله الحقيقي. قصة اليزابيث، خريجة جامعتي «هارفارد» و«يِال» الشهيرتين والكاتبة والصحفية في مجلة «نيويوركر» المرموقة، تحمل تفاصيل محزنة جداً، غير أن أحد أكثر الأمور المهمة التي أشارت إليها في ذكرياتها هو أن أحد المسببات الرئيسية لكآبتها ما سمَّته ب«لعنة التوقعات الكبيرة»؛ فلقد كانت طموحاتها كبيرة، لكنها كانت أكبر من اللازم. إدارة الإنسان في هذه الحياة لتوقعاته بشكلٍ واقعي أمر مهم لحصوله على حياة سعيدة. إننا نصاب بالإحباط، وربما الاكتئاب، لأن توقعاتنا تكون كبيرة فيخذلنا واقعنا، فلا يتحقق منها شيء. وهذا يحدث كثيراً لنا ويسبب لنا اختلالاً في «معادلة السعادة»؛ فالسعادة تساوي النجاح مقسوماً على التوقعات، وكلما كانت التوقعات معقولة (متواضعة نسبياً) زادت فرص سعادتنا، إذا افترضنا تساوي نسبة النجاح في كل الحالات. كل إنسان ينبغي عليه ترويض توقعاته، حتى لا يصبح جزءاً من أُمَّة «البْرُوزاك». [email protected]