وجوه متعبة، تتحرك ببطء وسط صخب وضجيج السيارات والمارة، يتوزعن على شوارع مدن وقرى محافظة الأحساء، يبحث عنهن الجميع، ويبحثن عن الجميع.. أنهن "البياعات أو الدلالات". اللاتي احترفن هذه المهنة منذ سنوات، ليدارين بها حاجتهن، أو يسدن بها رمق من يعيلونهن من الأبناء. أعداد الدلالات من النساء، خاصة في القرى في تزايد مستمر، بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة، خلال هذه السنوات، بعد ان كانت هذه المهنة عرفت تراجعاً ملحوظاً في سنوات سابقة. في الأحساء يعتبرن أسواقا متنقلة، يأتين إلى المنازل لعرض بضاعتهن وسلعهن على ربات البيوت، مظهرهن اليومي، وهن يحملن أكياساً مملوءة بأنواع السلع والبضائع يجبن الشوارع وصولاً إلى المنازل والبيوت المقصودة، بات مظهراً مألوفاً يطبع الحياة بالبساطة، في زمن العولمة والتسوق عبر الإنترنت. أما قبل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة فكانت هذه المهنة محصورة بنساء محدودات للغاية، توارثن هذا العمل أما عن جدة، وسميت اسر بهذا الاسم، الذي يشير إلى امتهان الأم أو الأخت لهذه المهنة، غير ان قسوة الظروف دفعت الكثيرات إلى امتهان هذا العمل، وهو عمل شريف، يدر دخلا كبيراً. البيع بالأجل وليست عودة مهنة الدلالة نابعة من ظروف البائعة فحسب، بل للظروف الاقتصادية للمجتمع ككل، فالدخل المتدني يدفع الكثير من الأسر للشراء من الدلالات، خصوصاً النساء، اللاتي يجدن في الشراء من الدلالة تسهيلات وميزات، قد لا تتوفر في السوق، ومن هذه التسهيلات والميزات البيع بالتقسيط المريح، وتلبية الرغبات العاجلة والملحة لربات البيوت، التي تحتمها ظروف طارئة، مثل وجود ضيوف، أو الخروج إلى حفل عرس، أو لتلبية دعوة، وهذه حالات تكون فيها المرأة بحاجة ماسة إلى بعض مستلزمات الزينة، لها أو لبناتها، أو بحاجة إلى أدوات للطباخة، لتلبية احتياجات الضيوف، وكثيرا ما تكون موجودة لدى البياعات، اللاتي يتوافدن بشكل دائم على المنازل والبيوت. وتجد الكثير من الأسر التي تعاني من نقص في السيولة النقدية في الشراء من الدلالة عرضاً مغرياً، حتى وان كانت الأسعار المطلوبة لسلعها مرتفعة نسبيا، مقارنة بما هو عليه الحال في السوق، لكن البيع بالأجل يغري على الشراء واقتناء حاجات قد تكون في بعض الأحيان غير ضرورية، لكن التسهيلات المقدمة تدفع إلى الشراء. طواف يومي أم أحمد دلالة مشهورة، بضائعها من الإكسسوارات وملابس الأطفال وأدوات الشعر وبعض السلع الشعبية، مثل الحناء وغيرها، تقول: أنطلق من منزلي كل صباح الساعة الثامنة، وأعود إلى المنزل الساعة الواحدة، لتناول الغذاء، والانتباه للأطفال، ثم أعود للعمل الساعة الرابعة عصراً إلى حدود الساعة السابعة مساء، أحمل خلال هذه الساعات صرتي وابدأ الطواف اليومي على حي بعينه أحدده سلفا في المساء، ويكون الهدف هو استخلاص الديون السابقة، التي مضى عليها أسبوع أو اكثر، وأيضا عرض سلع جديدة. أم أحمد بدأت هذا العمل منذ 4 سنوات، بعد أن تركها زوجها، ورحل عن الدنيا، مخلفاً 4 بنات و3 صبيان.. تقول: بعملي هذا اتفادى مذلة سؤال الناس.. وتضيف: لو لم أعمل في هذه المهنة لطردنا صاحب البيت الذي نستأجره بستة آلاف ريال، وتشردت أنا وأطفالي، لكن الحمد لله بعد أن بدأت بهذا العمل استطعت أن أحافظ على مسكن الأسرة. شراء وبيع بالتقسيط كما ان الدلالة أم حمد تبيع بالتقسيط، فهي تشتري من تجار الجملة بالتقسيط.. تقول: أنهم يراعون ظروفي.. مضيفة: على هؤلاء التجار أن يحمدوا الله، حيث نقوم بتصريف سلعهم، وهذه هي الحياة. في بعض الأيام تتناول أم أحمد غذاءها عند بعض الزبونات الطيبات، ممن صارت تربطها بهن صداقة ومودة.. تضيف: شهدت السنوات الأخيرة تزايداً في أعداد الدلالات، والشوارع مليئة بهن، والمنافسة كبيرة، لكن للمعرفة واللباقة والأخلاق مع الزبونات دورا في تفضيل واحدة على أخرى، والرزق في النهاية هو بيد الله. مماطلة في الدفع وعن المشاكل التي تواجهها الدلالة تقول أم نايف، إحدى الدلالات المعروفات في مدينة المبرز: أبرزها مماطلة بعض النساء في دفع ما عليهن، وهذا يضطرني إلى التردد عليهن اكثر من مرة، فيضيع علي الكثير من الوقت، فبدلاً من أن اذهب لوجهتي المحددة، اضطر للمرور على من عليهن ديون، ويماطلن في الدفع. ومن المشاكل أيضا هو انتقال بعض الأسر إلى مساكن جديدة، فهذا يتطلب مني وقتا إضافيا للبحث عن المدينات المنتقلات إلى بيوت أخرى، حيث يضطرني الأمر لسؤال الجيران، والبحث عن العنوان الجديد، وأحيانا ينتقل البعض إلى مدن أخرى، وبالتالي لا اعرف لهم عنواناً، لكن الحق يقال هناك من هؤلاء من يترك ما عليه عند الجيران، وهناك من لا يترك شيئاً. كل واحدة من الدلالات مثل أم عبدالله تخفي وراء حضورها اليومي، غياب معيل الأسرة، أو تخفي أسبابا لا يعلمها سوى الله وحده، والظاهرة في حد ذاتها تعبير عن المصاعب الاقتصادية للبعض، لكنها أيضا للبعض الآخر ليست كذلك، بل مهنة متوارثة، تجد فيها صاحبتها متعة تجلب لها علاقات طيبة، كما هو الحال مع البياعة "زهرة"، التي ظلت شهرتها تجوب الآفاق، تحب النساء فيها روح الدعابة والنكتة، ولولا انها قد توفيت مؤخراً لظلت إحدى العلامات، ولهذا فهم يجدون عزاءهم في ابنتها، التي حملت الكيس من بعدها، لكنها ليست بروح والدتها، التي أحبتها النساء في الحي، وربما في كل الأحياء التي تتردد عليها.