لا تكترث مريم للتعليقات المزعجة التي تطاولها وهي تحمل حقيبة بلاستيكية كبيرة أثناء مرورها في الشارع، قاصدة إحدى زبوناتها. ترتدي مريم، الصومالية الجنسية، ملابس سوداً من رأسها حتى أخمص قدميها، ما يزيد بشرتها السمراء سُمرة. لا تهتم بمظهرها كثيراً، جلّ همها التخلص مما تحمله في حقيبة تجلب لها تعليقات المارة. كل من تمرّ بهم مريم يدركون ماهية عملها، وأنه يتوجب عليها التنقل بين المتاجر المختلفة بهذه الحقيبة الكبيرة، لتوفير حاجات زبوناتها وإيصالها إليهن في منازلهن. فتلك هي الطريقة الوحيدة لتصريف بضاعتها. تقول: «كلهم يعرفون أني «دلّالة»، فالحقيبة هذه لا تحملها إلا الدلّالات. البعض يحترمنا لأنه يعرف أننا ما خرجنا إلا لحاجة، والبقية لا تتركنا في حالنا». و«الدلّالة» وسيطة تبيع سلعاً للمستهلكات في منازلهن. حقيبة مريم تلفت الانتباه بسبب لونها الزهري، وغالباً ما تكون ممتلئة بالسلع، ما يجعل السيدة الأربعينية تكابد للتنقل بها في المواصلات العامة أو أثناء جولتها بين المنازل، لتلبية حاجات زبوناتها. «ليس هناك ما هو أنسب من هذه الشنطة، لأنها قوية، على رغم أن حملها متعب، خصوصاً إذا توافر معي رأس مال جيد، وحصلت على بضائع بالآجل من التجار الذين أتعامل معهم»، تقول مريم. ويحدث أن تفقد «الدلّالة» صدقيتها لدى التجار، ذلك أنها تأخذ منهم بضاعتها بالآجل، على أن تسدّد لها زبوناتها، وغالبيتهن من نساء الحي، آخر كل شهر. لكن بعضهن يجدن تأجيل التسديد، أكثر راحة لهن من تسديد ديونهن للدلّالة. هذا ما يؤرق مريم وغيرها من الدلّالات. تقول: «التجار الصغار هم مصدر بضاعتنا الوحيد، وبعضهم قد نخسره إذا تأخرنا في تسديد ثمن البضاعة له في الوقت المحدد». وتضيف: «بعض الزبونات يتكاسلن في التسديد. فأضطر حينها إلى الاتصال بهن وتذكيرهن بديونهن لي. وعلى رغم أن الديون قليلة، فإنهن لا يسدّدن (الثمن) في الموعد». «مول» مصغّر حقيبة مريم الزهرية اللون «مول» مصغّر. تجد داخلها ملابس نسائية بأنواعها، وعطوراً وأكسسوارات وحقائب يد... وحتى صنادل وأحذية. ولا يخلو الأمر من وجود كريمات وأدوات تجميل ولبان (علكة). وكلها تتوافر وفق حاجات الزبونات وطلباتهن. تعرف مريم في أوساط زبوناتها ب «الدلّالة الصومالية»، لوجود أخريات يمنيات يعملن في هذا المجال، وربما يتحرّكن ببضائعهن في الحي ذاته، لكنهن لا يحملن حقيبة مريم الكبيرة الحجم، ذلك أن الأكياس البلاستيكية الخاصة بالمحال التجارية (مصدر السلع) تكفي لإخفاء نشاطهن. تقول تقوى، وهي تعمل «دلّالة» منذ 10 سنوات: «الدلالات الصوماليات هن من يحملن الحقائب الكبيرة. بالنسبة إليّ أحمل صرّة أو كيساً بلاستيكياً. أنا أحرص على ألا يعرف الناس في الشارع أني دلّالة، وأزور زبوناتي في البيوت والأعراس والمآتم». تقوى، اليمنية الجنسية، أم لسبعة أبناء. وهي، كما مريم، تعيل أطفالها. والدلالة بالنسبة إليها مصدر رزقها الوحيد. تقول: «ثمة تنافس بين الدلّالات بالذات إذا كن يعملن في حي واحد، لكن الزبونة هي من تميز الدلّالة الجيدة من بضاعتها». تعتمد «الدلالات» على «السمعة» في الانتشار، فإن كن جيدات ويُجدن توفير البضاعة الجيدة وبأسعار مرضية للزبونات، فإن أرقام هواتفهن النقالة سرعان ما تنتشر بين الصديقات، ويطلبن منهن توفير حاجاتهن بالآجل. تقول تقوى: «كل دلّالة لها زبونات ثابتات، لكنهن يزددن وفق السمعة الجيدة للدلّالة، أي كيف تبيع ونوع بضاعتها، وهل هي صبورة على الزبونات في السداد... وغير ذلك». وتتفق تقوى ومريم على أن إشكالات التأخر في السداد قد تتسبب في خسارة تاجر معين، لكنها تحافظ على الزبونة. تقول تقوى: «زبوناتنا يعرفن أننا نزيد مكسبنا على ثمن القطع التي نبيعهن إياها، لكنهن يتفهمن ذلك لأننا نصبر عليهن في السداد». بالنسبة إلى مريم، فإنها لا تزور قاعات الأعراس، وتكتفي بعرض بضائعها على زبوناتها في الحي في منازلهن. أما تقوى فتذهب إلى الأعراس والمآتم بدعوة، وأحياناً من دون دعوة إذا كان دخول المناسبة متاحاً بلا دعوات. تقول: «كثير من الناس لا يهتمون بإحضار الدعوة كشرط لحضور العرس أو المأتم أو حفلة الولادة. وإذا لم أدعَ وعلمت أن هناك مناسبة في الحي، أحضر وأعرض بضاعتي وأجد فرصة لتصريفها، وربما من دون آجل». وعلى رغم محاولاتهن مسايرة الظروف، تظل التفاصيل اليومية في حياة هؤلاء عسيرة. فقد تمر عليهن أيام من دون بيع أو شراء، لتعذّر السداد، أو التزامهن بتسديد أقساط التعليم أو إيجارات منازلهن أو توفير مصروف المنزل. لذا، يضطررن إلى الاستدانة... للبدء من الصفر. يذكر أن كلمة «دلّال» تطلق في صنعاء على الرجل الذي يعمل «سمساراً» لتوفير عقارات للبيع أو الإيجار. لكن «الدلّالين» الرجال يظلون أفضل حالاً من «الدلالات»، لكونهم يأخذون أجورهم فور الاتفاق على البيع أو الإيجار للعقارات. كما أنهم لا يضطرون إلى البحث عن الزبائن، بل يأتي هؤلاء إليهم.