تصادف هذه السنة مرور مائة عام على ميلاد الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (نوبل عام 1971 ) الذي اعتبر أحد الأسماء الشعرية الكبيرة التي أسهمت في رسم خارطة الشعر العالمي في القرن العشرين وكان له حضور كبير في المشهدين الأدبي والسياسي خصوصا من جهة ارتباطه بالنضال الأممي وعلى وجه الخصوص في القارة اللاتينية التي ينتمي إليها، أمريكا الجنوبية. ولد ريكاردو نيفتالي رييس باسولاتو وهذا هو اسمه الحقيقي عام 1904 في حنوب تشيلي ونشر مجموعته الشعرية الأولي عام 1923. وبالرغم من أنه نشأ نشأة متواضعة إلا أنه استطاع أن يشق طريقه في دروب الحياة والأدب ليصبح سفيرا ونائبا وداعيا للحريات ومناضلا عرف باعتناقه للشيوعية والتزامه بها. وقد أخذه عمله الدبلوماسي إلى العديد من دول العالم مثل الهند وأندونيسيا والمكسيك والأرجنتين وإسبانيا وفرنسا. في بداية حياته ارتبط بزوجته الأولى وأنجب منها بنتا توفيت باكرا ، غير أنه لم يأت على ذكرهما في مذكراته وقد تم تفسير ذلك بأحد أمرين: إما أنه كان يعتبر تجربة زواجه الأولى تلك تجربة فاشلة ونتيجة لطيش وتهور الشباب ، وإما أن الجرح النفسي قد كان عميقا جدا بالنسبة إليه ليتمكن من التعبير عن حزنه. في منتصف الثلاثينات خاض نيرودا تجربة الحرب الأهلية في إسبانيا ضمن المتعاطفين مع الجمهوريين الذين كان من بينهم الشاعر الإسباني المعروف فدريكو غارسيا لوركا الذي أصبح أحد أصدقاء نيرودا المقربين. وقد قتل لوركا من قبل الفاشيين كما هو معروف عام 1936 أثناء وجود نيرودا في إسبانيا. في ذلك الحين كان نيرودا متأثرا أيضا إلى حد كبير بزوجته الثانية ديليا ديل كاريل، وقد أصبحت معظم أعماله نتيجة لهذا التأثر ملتزمة سياسيا وأقرب إلى المثالية. لقد جاء اعتناق نيرودا للشيوعية كنتيجة لمشاهداته وتجاربه وملاحظاته عن حالة الفقر الشديد الذي كانت تعاني منه دول أمريكا اللاتينية بصورة عامة والفجوة الشاسعة ما بين الأغنياء والفقراء. يضاف إلى ذلك الحرب الأهلية الإسبانية التي فقد خلالها صديقه الحميم الموهوب لوركا على يد القوى اليمينية. لقد كان من الطبيعي بالنسبة له أن يرى في المثال الشيوعي وعدا باحتمال وإمكانية وجود مجتمع أفضل في بلده، وأن يتشوف فيه سبيلا لمنح الكرامة والعيش الكريم لمواطنيه. تم استدعاء نيرودا إلى التشيلي عام 1938 حيث أمضى ثلاثة أعوام في المكسيك كقنصل عام وبعد عودته إلى التشيلي مرة أخرى عام 1943 انضم بشكل رسمي إلى الحزب الشيوعي وتم انتخابه عضوا في مجلس الشيوخ عام 1945. الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته - فيما عدا فترة قصيرة أمضاها كسفير لبلاده إلى فرنسا- قضاها في جزيرة نيجرا برفقة زوجته الثالثة ماتيلد يوروتيا. كان النظام الذي يحكم البلاد حينئذ أكثر إنسانية بما لا يقاس من النظام الذي سبقه، الأمر الذي مكنه من أن يكرس حياته أو ما تبقى له منها للكتابة والإبداع. وفي حقيقة الأمر أنه استقال من عمله بعد أقل من عامين بسبب شعوره بالحنين إلى وطنه تشيلي. لقد عاد للاحتفال بفوزه بجائزة نوبل ، وما إن وصل إلى جزيرة نيجرا حيث يقيم حتى اتخذ قرارا بعدم مغادرتها مرة أخرى حتى أنه قدم استقالته عبر الهاتف إلى رئيسه الذي كان في نيويورك في تلك الأثناء. في عام 1973، وبعد وقت قصير من مقتل صديقه الرئيس سلفادور ألليندي وعودة النظام القمعي إلى تشيلي، توفي نيرودا. لقد عانى طويلا من سرطان البروستاتا، وكان مريضا حين أعلن عن سقوط نظام ألليندي، غير أنه ليس من المستبعد أن ما عجل بوفاته هو رؤيته لبلده وهو يرتد مرة أخرى إلى الفاشستية بعد فترة قصيرة من الرخاء والأمن. كتب نيرودا في زوجته الثالثة ديوانا كاملا تحت عنوان (أشعار القبطان) ونشره لأول مرة عاريا من الاسم عام 1952 احتراما لمشاعر زوجته الثانية ديليا التي انفصل عنها حبيا عام 1954. فيما يلي نترجم مجموعة من قصائد هذا الديوان. في داخلك الأرض أيتها الوردة الصغيرة، الوردة البالغة الصغر، إنك ضئيلة وعارية، حتى ليخيل لي بعض الأحيان أن بوسعي وضعك في إحدى يدي وأن بمقدوري أن أضم يدي عليك وأرفعك إلى فمي، ولكن فجأة الملكة لقد توجتك ملكة. هنالك نساء أعظم منك بكثير هنالك نساء أنقى منك بكثير هنالك نساء أجمل منك ، أجل . ولكنك أنت الملكة. حين تمشين في الشوارع لا يتعرف عليك أحد لا يرى أحد تاجك الكريستالي، ولا يلاحظ أحد البساط الأحمر الذهبي الذي تطئينه حين تعبرين. ذلك البساط الذي لا وجود له. وحين تظهرين تهدر كل الأنهار وتهز الأجراس وينغمر العالم بترانيم لا يستطيع سماعها يا حبيبتي إلا أنا وأنت. يداك حينما تقترب يداك ، يا حبيبتي من يدي فما الذي تحضرانه لي في رحلتهما؟ لماذا تتوقفان فوق فمي فجأة، لماذا أتعرف عليهما كما لو أنني منذ زمن بعيد قد لمستهما، كما لو أنهما قد وجدتا من قبل كما لو أنهما قد مرتا بلطف فوق جبيني وخاصرتي؟ لقد جاءت نعومتهما محلقة عبر الزمن، فوق البحر، وخلال الدخان، مع الربيع، وحينما وضعت يديك فوق صدري عرفت هذين الجناحين للحمائم الذهبية، عرفت الطين ولون القمح. طوال سنوات حياتي كنت أبحث عنهما. صعدت مجموعات متواصلة من السلالم وأبحرت خلال الصخور البحرية المثلمة، أقلتني القطارات ، و أعادتني البحار، وفوق أديم الأعناب ظننت أنني لمستك. ملمس الخشب فجأة أعادني للاتصال بك، اللوز منحني وعدا عن نعومتك السرية، إلى أن تشابكت يداك فوق صدري وهنالك مثل جناحين أتمتا رحلتهما. ضحكتك احرميني من الخبز إذا ما شئت، احرميني من الهواء ، لكن لا تحرميني من ضحكتك. لا تأخذي الوردة، الرمح الذي تجردينه، الماء الذي في الحال يتفجر في ابتهاجك، الموجة المفاجئة من النباتات التي تنبت حول قدميك. إن كفاحي شاق وفي بعض الأحيان أعود إلى المنزل متعب العينين من تحديقي طوال اليوم في الأرض الساكنة، ولكنني ما إن أدخل، حتى ترتفع ضحكتك إلى السماء، باحثة عني، ولتفتح لي كل أبواب الحياة. يا حبيبتي، حتى في أشد الساعات حلكة جردي ضحكتك، وإذا ما حدث فجأة أن رأيت دمي يلطخ الأحجار في الطريق، فاضحكي، لأن ضحكتك ستكون ليدي مثل سيف جديد ملتمع. عند البحر في الخريف ستطلق ضحكتك زختها من الزبد، وفي الربيع، يا حبيبتي، أحتاج ضحكتك مثل الزهرة التي طال انتظارها، الزهرة الزرقاء ، وردة وطني الشجي. اضحكي من الليل، من النهار، من القمر، اضحكي من هذا الصبي الأخرق الذي يحبك، ولكن حينما أفتح عيني، وأغلقهما، حين تغذ خطاي السير، وحين تعود خطاي، احرميني من الخبز، من الهواء، احرميني من الضوء، من الربيع، ولكن لا تحرميني أبدا من ضحكتك، لأن موتي حينئذ سيكون محتما. ولدي هل تعلم يا ولدي، هل تعلم من أين جئت؟ من بحيرة تصرخ فيها النوارس بيضاء وجائعة. عند المياه الشتائية قذفنا بكل شيء إلى اللهب، وأشطنا حياتينا. هكذا جئت إلى هذا العالم. ولكنها، لتراني ولتراك يوما ما عبرت المحيطات، سافرت في كل بقاع الأرض، بحروبها وبجبالها، بصحاريها وأشواكها. هكذا جئت إلى هذا العالم. لقد جئت من أماكن عديدة، من الماء والتراب، من النار والثلج، لقد جئت من مكان بعيد لتكون معنا نحن الاثنين، من هذا الحب الرهيب الذي يكبل أيدينا، نريد أن نعرف ما تكون، وما بوسعك أن تقوله لنا، لأنك تعلم أكثر عن العالم الذي منحناك إياه. مثل عاصفة عظيمة هززنا وهززنا شجرة الحياة نزولا إلى أسرار جذورها، وهأنت ذا الآن تغني في الأوراق، فوق أعلى غصن بلغناه معك. الكندور* أنا الكندور، أحلق فوقك حين تمشين وفجأة في دوامة من الريح والريش والبراثن أهوي فوقك وأحملك إلى الأعلى في عاصفة صاخبة من البرد العاصف. عاليا في برجي المكسو بالثلج إلى مخبئي الأسود أحملك لتعيشي وحدك، تنبتين غطاء من الريش وتحلقين فوق العالم، ساكنة، في الأعالي. يا زوجة الكندور، لنندفع نحو هذه الفريسة الحمراء، لنمزق الحياة التي تأتي مع القلب النابض ولنحلق ثانية معا في رحلتنا المتوحشة. دائما إنني لا أغار مما حدث قبلي. تعالي مع رجل تعالي مثل نهر ممتلئ برجال غرقى ينحدر إلى البحر الهائج، إلى الموج المتكسر الأبدي ، إلى الوقت! أحضريهم جميعا إلى حيث أنتظرك؛ سنكون وحدنا دائما، سنكون دائما أنت وأنا وحيدين فوق الأرض، لنبدأ حياتنا! الخطوة الخاطئة إذا ما خطت قدمك خطوة أخرى فسوف تقطع. إذا ما أخذتك يدك إلى طريق آخر فسوف تتعفن وتسقط. إذا ما أخذت حياتك مني فسوف تموتين حتى وأنت حية ترزقين. ستكونين جثة أو ظلا يهيم خلال العالم من دوني. @ الكندور : نسر أمريكي ضخم.