خادم الحرمين يوجه بناءً على ما رفعه ولي العهد بتمديد العمل ببرنامج حساب المواطن    غربلة في قائمة الاخضر القادمة وانضمام جهاد والسالم والعثمان وابوالشامات    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهمي هويدي
نشر في اليوم يوم 20 - 07 - 2004

آخر ما توقعت أن يتحول الاجتماع لإعلان ميلاد اتحاد علماء المسلمين الذي رتب أمر عقده في لندن، إلى حدث مدِّو شغل الرأي العام البريطاني طيلة أربعة أيام بلياليها. ولم تكن تلك هي المفاجأة الوحيدة، لان الصخب الذي افتعلته المجموعة الصهيونية غدا تسويقاً جيداً للفكرة التي أرادوا تلغيمها، ولكن شاء ربك أن ينقلب السحر فيها على الساحر.
(1)
في ذلك الصباح، السابع من شهر يوليو الحالي كان عنوان الصفحة الأولى لصحيفة "الصن" هو: لقد هبط الشر - المملكة المتحدة رحبت بالشيخ الذي يعشق الإرهاب. أما عنوان صحيفة "ديلي اكسبريس" فكان كالتالي: سفير الكراهية دعى إلى بريطانيا - هذا الرجل الشرير يجب أن يمنع من الدخول. أما صحيفتا "التايمز" و "ايفننج ستاندارد" فقد قالتا نفس الكلام بعبارات أخرى اقل فجاجة.
ظاهر الأمر أن المظاهرة العدائية كانت موجهة ضد الشيخ يوسف القرضاوي، الذي اتهمته الصحف البريطانية بثلاث تهم هي: الدفاع عن العمليات الاستشهادية، والحث على قتل الشاذين جنسياً، وتأييد معاقبة النساء بالضرب. وهي ملفات باتت تستنفر أهم قوى الضغط في بريطانيا، والغرب عموماً. فالعمليات الاستشهادية تحولت إلى تأييد للإرهاب وتعبير عن العداء للسامية، وتلك لعمري صارت "أم الكبائر". أما استنكار الشذوذ الجنسي بأي صورة، فقد غدا في آخر الزمان جريمة لا تغتفر. وحكاية ضرب النساء التي اختلطت فيها المبالغة بالالتباس، أصبحت قضية تلوكها ألسنة التجمعات النسوية المتطرفة (الفيمينست - التي عرفها الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنها حركات التمركز حول الأنثى).
كنت اعرف شيئاً عن نفوذ المجموعة اليهودية في إنجلترا، لكن فكرتي كانت ضبابية عن نفوذ الشاذين جنسياً والحركة النسوية المتطرفة هناك. وقد سمعت ممن هم اخبر مني بالشأن البريطاني أن هذه المجموعات الثلاث تعد من أهم قوى الضغط ليس في بريطانيا وحدها، وإنما في الغرب كله. وان قياداتها تخوض منذ سنوات حرباً شرسة لإثبات وجودها وتوسيع مكتسباتها وقمع معارضيها. وقال لي هؤلاء إن توجيه التهم الثلاث إلى الشيخ يوسف القرضاوي قصد به تأليب الرأي العام، واستثارته ضده، باعتبار أن ما نسب إليه يعد عدواناً على "ثوابت" احدث طبعة للحضارة الغربية.
(2)
لم تكن المظاهرة الإعلامية التي لاحت في ذلك الصباح مجرد مصادفة، وإنما الترتيب فيها بدا واضحاً. فقد كان متعذراً افتراض البراءة في صدور الصحف الأربع في يوم واحد حاملة عناوين الاحتجاج والاعتراض، ومتبنية ذات الحجج والاتهامات، كأن رسالة بمضمون واحد وزعت على الجميع، ثم أعطيت لهم إشارة البدء لفتح المعركة في يوم محدد. كما لم تكن مصادفة أن تكون الصحف الأربع تحت سيطرة اليمين الصهيوني. لذلك فرغم أن ثلاث تهم وجهت إلى الشيخ القرضاوي، إلا أن مسألة العمليات الاستشهادية حظيت بأكبر قدر من الضوء والاهتمام. فكان التركيز عليها شديداً، والتذكير بها ملحاً ولافتاً الانتباه إلى أن قوى الضغط ثلاث حقاً، إلا أن المجموعة الصهيونية هي أقوى الأقوياء. عند الظهر تبين أن المظاهرة الإعلامية كانت الطلقة الأولى في الحملة. وعلمنا أن الموضوع أثير في مجلس العموم. حيث قدم زعيم المحافظين المعارض مايكل هاورد استجواباً لرئيس الحكومة ووزير الداخلية حول أسباب السماح للشيخ يوسف القرضاوي بدخول بريطانيا، رغم انه ممنوع من دخول الولايات المتحدة بسبب تأييده "للإرهاب الفلسطيني". وقال هاورد انه لو كان وزيراً للداخلية لما سمح له بالدخول، لان التسامح البريطاني له حدود، ويجب ألا يشمل المعادين للسامية ومؤيدي الإرهابيين. إلى غير ذلك من الاتهامات التي ساقها الرجل بصفته يهودياً متعصباً، وليس باعتباره زعيماً للمعارضة.
وبينما الموضوع مثار في مجلس العموم، كان وفد من ممثلي المجموعة اليهودية متجهاً إلى مكتب المدعي العام، حاملين معهم شكوى تتهم الشيخ القرضاوي بإطلاق تصريحات معادية "للسامية"، تحرض على القتل وتؤيد الإرهابيين. وتزامن ذلك مع رسالة وجهتها النائبة العمالية لويز ايلمان (المعروفة بتأييدها الدائم لإسرائيل) إلى وزير الداخلية ديفيد بلانكيت. ذكرت فيها أن زيارة الشيخ "عمل كريه من شأنه أن يسبب مشاكل أمنية ضخمة"، لأنه يؤيد منفذي العمليات "الانتحارية" من الفلسطينيين. كما يؤيد ضرب "الزوجات غير المطيعات".
كان لهذا الضجيج صداه في وسائل الإعلام الأخرى، فدخلت إلى الحلبة الإذاعة البريطانية وقنوات التليفزيون المختلفة التي فتحت برامجها المسائية لمناقشة الموضوع. واستدعى للمشاركة في المناقشة وزير الدولة للشئون الداخلية المكلف بملف الاقليات، فيونا ماكجارت، ومتحدثة باسم شرطة لندن، والدكتور عزام التميمي ممثلاً للرابطة الإسلامية في لندن (التي استضافت الشيخ). ومن أهم ما قالته السيدة ماكجارت والمتحدثة باسم الداخلية إن منع الشيخ من دخول إنجلترا غير ممكن ما لم يتصرف بطريقة مخالفة للقانون، الذي ينص على أن الأجنبي يمنع من الزيارة إذا كان يشكل تهديداً للأمن الوطني، أو أدى مجيئه إلى إثارة شغب وعنف قد يترتب عليه إلحاق الضرر بالمواطنين البريطانيين. أما إذا كان يحمل أفكارا "بغيضة" غير مقبولة لدى أي عدد من الناس، فلا سبيل إلى منعه أو إبعاده. أما الدكتور التميمي فقد أعطى الشيخ حقه باعتباره مرجعاً للمسلمين من دعاة الاعتدال والتعايش، وله دفاعه المشهود عن الديمقراطية وإدانته المعروفة لأحداث 11 سبتمبر، وقال إن آراءه الفقهية شوهت عمداً من جانب الذين تحاملوا عليه. فهو مثلاً لم يؤيد العمليات الاستشهادية على إطلاقها، ولكنه اعتبرها سلاح الضعيف، وحصر جوازها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في حين أنكر حدوثها في العراق.
(3)
لاحت بوادر المؤامرة في حملة التعبئة المضادة، التي استقبلت الشيخ. ولم تكن تلك البوادر مقصورة على ما نشرته ضده الصحف الأربع الموالية لإسرائيل. وإنما أيدتها الأسئلة التي ألقيت عليه بعد الكلمة التي ألقاها في مقر عمدة لندن، وتحدث فيها عن دور المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يرأسه في تيسير وتشجيع التعايش الإيجابي بين المسلمين وبين المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، كما تحدث عن اختتام اجتماعات المجلس بإعلان مولد أول اتحاد لعلماء المسلمين. وكان الشيخ قد تطرق في مستهل كلمته إلى انه زار لندن عشرات المرات في العقود الثلاثة الأخيرة، مما جعله يستغرب الضجة التي أثيرت من حوله هذه المرة. وما ان انتهى من كلمته حتى سأله أحد الصحفيين عن رأيه في العمليات التي أسماها بالانتحارية الموجهة ضد الإسرائيليين. وكان إلقاء السؤال محاولة لاستدراجه للدخول في معركة خارج موضوع زيارته، ومن ثم فرض جدول أعمال آخر عليه. في الرد عبر الشيخ عن رأيه المعلن في الموضوع، المؤيد للعمليات في حدود معينة، والمتفهم للضرورات التي فرضتها، متمثلة في التصعيد الإسرائيلي المستمر، وإصرارهم على قصف المدنيين الفلسطينيين. وما أن قال هذا الكلام حتى اتخذت المناقشة مساراً آخر. حيث تم تجاهل الموضوع الأصلي الذي تحدث فيه وجاء من اجله. وهيمنت على جو القاعة مسألة العمليات الاستشهادية وتداعياتها. والعلاقة مع اليهود والعداء للسامية.
لفت الأنظار في هذا الصدد أن اثنين من حاخامات اليهود كانا بين الحاضرين، ولانهما ينتميان إلى جماعة "ناطورني كارتا" الرافضة للصهيونية والتي لا تعترف بشرعية إسرائيل. فقد تحدث أحدهما مرحباً بالشيخ القرضاوي، ومعتذراً له عما بدر من بعض اليهود المتعصبين في بريطانيا من اتهامات له واحتجاجات على زيارته.
في اليوم التالي 8/7 تجاهلت الصحف التي قادت الحملة كل ما قاله الشيخ عن زيارته ومهمته، ولم تشر بكلمة إلى حديثه عن التعايش الإيجابي والاحترام المتبادل بين المسلمين وغيرهم، وعادوا إلى إبراز ما قاله عن تأييد العمليات الاستشهادية. واستمرت المعزوفة في وسائل الإعلام الأخرى، حيث رددت أصوات نفر من ممثلي الجالية اليهودية، الذين أضافوا إلى حكاية العداء للسامية تهمة أخرى هي الدعوة إلى تدمير إسرائيل. إزاء الإلحاح على الموضوع في الإعلام ومجلس العموم، فان دائرة الاهتمام به اتسعت، وبدأ كثيرون يتساءلون عن الحقيقة فيه وأعاد التوازن إلى المشهد المعالجة المحايدة التي قدمتها الاذاعة البريطانية للموضوع. كما أن صحيفة "الجارديان" نشرت في يوم واحد (9/7) ثلاثة تعليقات إيجابية عن الشيخ، عرضت لموقفه الفكري المعتدل، ودعوته إلى الوسطية وحملته على التطرف والعنف والإرهاب. ولفتت الانتباه إلى انه عضو في مركز اوكسفورد للدراسات الإسلامية، الذي يرأسه الأمير تشارلز. وانه يتردد سنوياً على بريطانيا. كما أشارت إلى انه زار لندن خمس مرات أثناء الفترة التي كان مايكل هاورد زعيم المحافظين يشغل منصب وزير الداخلية (بين عامي 92 و 95). وهو الذي قال أمام مجلس العموم: ان وزارة الداخلية أخطأت حين سمحت له بدخول البلاد (!). الأمر الذي أحرج الرجل وبين كذبه. وساعد على تحول الأجواء أن وزارة الداخلية وهي تدافع عن قرارها السماح للقرضاوي بالدخول، نفت ضمناً الاتهامات التي وجهت إليه.
أهم من ذلك أن المدعي العام الذي تلقى شكوى زعماء الجالية اليهودية أعلن خلال 24 ساعة انه ليست هناك قضية ضد الدكتور القرضاوي، ولا وجه لإقامة الدعوى عليه. وكان ذلك قراراً مفاجئاً ومثيراً، حيث المعتاد أن يستغرق بحث أمر من ذلك القبيل مدة شهر على الأقل. الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن الحكومة حريصة على احتواء الموضوع بأسرع ما يمكن. وهي التي تم استئذانها من جانب الرابطة الإسلامية قبل دعوة الشيخ، وكان ردها مرحباً وإيجابيا.
(4)
بينما العاصفة مستمرة كان المجلس الأوروبي للإفتاء بأعضائه المقيمين في الغرب والقادمين من العالم العربي منعقداً في الضاحية اللندنية "بدفورد" لمناقشة العديد من الأبحاث التي تناولت مختلف اشكالات الأسرة في المهجر. وفي الوقت ذاته كان الأعضاء المؤسسون لاتحاد علماء المسلمين يتقاطرون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، من اندونيسيا إلى الجزائر، ترقباً للحظة ميلاد الحدث الكبير والمثير. فتلك هي المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة وجود مرجعية للمسلمين، تشمل مختلف مذاهبهم وفرقهم، وفي الوقت ذاته تكون مستقلة وخارجة عن وصاية الأنظمة أو الجماعات. والشمول والاستقلال يمثلان إضافة حقيقية بالغة الأهمية للعمل الإسلامي العام. صحيح أن ثمة مرجعيات متعددة في العالم الإسلامي لها دورها المعتبر، لكن ما جاء ناشطاً منها (مثل المجامع الفقهية) لم يكن جامعاً للهم الإسلامي، وما بدا جامعاً منها كان مشكوكاً في استقلاله، وما كان مستقلاً لم يكن جامعاً.
ورغم أن بعض الرسميين شاركوا في الاجتماع (الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومفتي سلطنة عمان ووزيرا الأوقاف في السودان والكويت) إلا أن هؤلاء حضروا بصفتهم من أهل العلم لا من أهل السلطة. وسجل أحدهم - الدكتور عصام البشير وزير الأوقاف السوداني - انه خلع عباءة السلطة حين دخل إلى مقر الاجتماع.
إلى جانب ذلك، واهم منه في الواقع، أن الاتفاق كان منعقداً بين الجميع على أن الاتحاد الجديد ليس بديلاً عن المرجعيات والمجامع الأخرى الموجودة في بعض الأقطار العربية، ولكنه مكمل لها بفضائه الأوسع، سواء من حيث نوعية المشاركين أو حرية الحركة. غير أن هذه الإشارة لم تستقبل على نحو إيجابي من جانب بعض المجامع التي لم يستوعب مسئولوها فكرة الخروج على "الوصاية". ومن أسف أن ذلك أوقع بعض العلماء من أعضائها في الحرج، وحال دون مشاركتهم في الاجتماع التأسيسي للاتحاد. إلا أن ذلك عد سحابة عابرة سرعان ما تنقشع من خلال الممارسة، حينما يزول الالتباس وتتعزز الثقة المتبادلة. ورغم ذلك فان الأغلبية الساحقة من الأقطار الإسلامية كانت ممثلة في اللقاء الذي تم في 11/7، وحضره حوالي 200 شخص من علماء المسلمين، السنة فيهم والشيعة، واباضية عمان وزيود اليمن، الأمر الذي وفر للاجتماع عنصر تمثيل الأمة الإسلامية بصورة نسبية. خصوصاً أن الحاضرين لم يكونوا يمثلون الأقطار الإسلامية وحسب، وإنما كان منهم أيضاً من جاء ممثلاً للاقليات الإسلامية حيث وجدت.
لماذا الاتحاد؟ ولماذا لندن؟
في افتتاح الاجتماع التأسيسي رد الشيخ يوسف القرضاوي، صاحب الفكرة الذي انتخب رئيساً للاتحاد، على السؤال الأول قائلاً أن كل أصحاب الديانات والكيانات السياسية لهم أطرهم المرجعية باستثناء المسلمين. وبسبب تشتت المرجعيات والوصايات المفروضة عليها فان المسلمين فقدوا الثقة في كثير منها، بل وتصدى للفتوى والحديث عن الإسلام وباسمه كثيرون من غير ذوي الصفة، فأساءوا إلى الإسلام وشوهوا صورته على النحو الذي يعرفه الجميع. ومن ثم بات من الضروري تشكيل مرجعية مستقلة تستعيد ثقة المسلمين، وتكون تعبيراً صادقاً عن وسطية الإسلام واعتداله. حيث يرجى أن يكون لتلك المرجعية صوت في مختلف القضايا التي تهم المسلمين، والتي تتجاوز الأمور الفقهية إلى توحيد صفوفهم والتعبير عن آمالهم والحفاظ على هويتهم الثقافية والحضارية.
أما لماذا لندن فلعدة أسباب أولها وأهمها أن عقبات حالت دون عقد الاجتماع في ست دول عربية وإسلامية فوتحت في الأمر واعتذرت عن الاستجابة لأسباب مختلفة ومفهومة. وثانيها أن الرابطة الإسلامية في إنجلترا عرضت استضافة اللقاء، وتولت من جانبها عبء وترتيب أمر عقده. وثالثها أن أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء كانوا من بين الأعضاء المؤسسين، وكانوا موجودين لدورتهم العادية في لندن، ورؤي أن ذلك سوف ييسر التحاقهم بالاجتماع التأسيسي. وكانت تلك التيسيرات عنصراً مشجعاً على عقد المؤتمر في العاصمة البريطانية، ومساعداً على تحقيق المراد منه. وقد فهمت أن لندن اعتبرت ممراً للاتحاد وليست مقراً له، لان أمانته العامة التي تباشر العمل الكبير المنوط بلجانه المختلفة ستكون بيروت.
(5)
استرعى انتباهي في المشهد أن أعضاء الرابطة الإسلامية في إنجلترا كانوا من اشد المتحمسين للفكرة. ولم استغرب ذلك بعدما استمعت إلى آرائهم وتعرفت على نشاطاتهم، التي فسرت لي ذلك الحماس. فقد اكتشفت انهم قرروا بدورهم أن يتجاوزوا التجمعات القطرية والمذهبية وان يشكلوا مظلة جامعة (مرجعية سياسية إن شئت الدقة) تمكن المسلمين من المشاركة بأصواتهم في الانتخابات العامة، مستفيدين من عاملين، أولهما الشعور بالتضامن الذي ساد بينهم بعد أحداث 11 سبتمبر، وثانيهما ثقل أصوات المسلمين الذين يحملون الجنسية البريطانية، حيث تبين لهم مثلاً أن أصوات المسلمين إذا اجتمعت فإنها قادرة على حسم نتائج الانتخابات لصالحهم في 80 دائرة (من بين 560 دائرة انتخابية). وقد تحركوا بالفعل على ذلك الصعيد، ودخلوا في تحالفات مع معارضي غزو العراق والمنظمات الداعية إلى نزع السلاح النووي، ونجحوا في تنظيم مظاهرة خرجت ضد الغزو ضمت اكثر من مليون شخص، ولجأت إليهم الحكومة في سعيها لشرح سياستها الخارجية، كما انهم وقفوا إلى جانب عمدة لندن كين ليفنجستون المتعاطف معهم، وكانت أصواتهم عنصراً رئيسياً في فوزه. وبسبب ذلك فان الحكومة أصبحت تعمل حساباً لهم، كما أن المجموعة الصهيونية أزعجها تحركهم وحضورهم. أثناء المناقشة معهم قال أحد القياديين في الرابطة أن الزوبعة التي أثيرت لم تستهدف الشيخ القرضاوي وحده، ولكنها تضمنت رسالة إلى الرابطة الإسلامية أيضاً. ولائحة الادعاء التي قدمها ممثلو اليهود إلى المدعي العام ضد الشيخ جاءت رداً على الدعوى التي رفعتها الرابطة قبل اكثر من عام ضد شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي، وطالبت فيها بمحاكمته باعتباره مجرم حرب. وقد أدرك الرجل خطورة الاتهامات التي وجهت إليه، فغادر لندن على وجه السرعة قبل فتح التحقيق في الموضوع.
حين استمعت إلى قصة الرابطة ومعاركها، تنبهت إلى أن طريق اتحاد العلماء المسلمين بدوره ليس سهلاً، وانه إذا أراد أن يحقق ما هو معلق عليه من آمال فلن يخلو طريقه من أشواك والغام، لاحت بعض بوادرها في الافق، ونسأل الله ان يكون ما خفي أهوَن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.