حين تلحظ عيناك "على شاطئ من دمانا" الصادر حديثاً للشاعرة بديعة كشغري.. تختلج في ذهنك رؤى وأفكار شتّى قد لا تهدأ بل تتصاعد وتيرتها تباعاً لتنبجس تساؤلات عديدة حائرة عما عسى أن الشاعرة إزاء دماء أبناء أمتنا المسفوحة ظلماً وعدواناً على مذبح مأساتنا المفجعة. أمام هذا العنوان المحرض تراودك رغبة الإستقصاء وتستثير فضولك لتستقرئ ما بين السطور. وعقب التجاذب النفسي والفكري بين عناصر اليأس والرجاء سرعان ما يحدوك حب الاستطلاع إلى تصفح محتوى الديوان ومن ثم إنعام النظر في القصائد واحدة تلو الأخرى للوقوف على ما ترمي إليه الشاعرة وما تعبرعنه من أفكار ورؤى وأحلام من خلال هذا الديوان الذي صدر مؤخراً عن دار "الأولى للنشر" بالقاهرة. وهو الديوان الخامس للشاعرة كشغري، إذ سبق لها أن أصدرت أربعة دواوين هي: 1- "الرمل إذا أزهر" دار الكنوز الأدبية. بيروت - سبتمبر 1994 2- "مسرى الروح والزمن" دار الكنوز الأدبية. بيروت سبتمبر 1997 3- "الزهرة المستعصية The Unattainable Lotus" ديوان شعر مزدوج اللغة ترجمته الشاعرة إلى الإنجليزية من مجموعة قصائدها - وصدر عن دار الساقي/لندن 2001 4- "شيء من طقوسي" دار الكنوز الأدبية. بيروت - أغسطس 2001 يقع "على شاطئ من دمانا" في (132) صفحة من القطع الصغيرة. أما الغلاف فبحر وسماء زرقاوان بينهما شاطئ سرمدي تتوسده قبة مسجد تدمع ومئذنتان تحيط بهما السحب الداكنة. يشتمل الديوان على وحدتين: الأولى وتشكل ثلثي الديوان تحت عنوان " على مهماز الأرض " وتضم ست عشرة قصيدة وطنية تستنطق الهم الجماعي وكأنها تؤرخ لمعاناة الأمة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها. والوحدة الثانية "في صومعة الوجد" وتشكل ثلث الديوان وفيها ثماني قصائد هي أقرب إلى البوح الوجداني الذي ينهل من ابتهالات الروح. وفي كلتا الوحدتين نرى أن القصائد تضج بالمعاني المسبوكة بنظرة تأملية فلسفية وأحاسيس بالغة الأسى وزفرات الألم والحس المرهف كما أنها صيغت بلغة فنية تميزت بها الشاعرة بين قصيدتي التفعيلة والنثر. أهدت كشغري الديوان إلى "الأديبة سارة الخثلان بلاغة المحبة التي أشرعت أبوابها لتستقبل وهجَ الأحرف الباحثة عن خطاها المشتركة في "منتدى الأربعائيات" بالدمام . وإلى كل من أسهمت في بذر قطرة ضوء استنارت بها أرجاء هذا المنتدى". تغمس الشاعرة ريشتها في بحر معاناة الأمة العربية والإسلامية ومصائبها وآلامها التي عصفت بمقوماتها وهزت ولاتزال أركانها مقوضةً دعائمها واسسها وملوثة أرضها ومياهها وسماؤها بسموم الحقد والضغينة والغدر من المحيط إلى الخليج، حيث تستمد من جراح الأرض النازفة صرخات الأمل والبشرى لفجر يولد من جديد. وتستصرخ كرامة الوطن المتغلغلة في أعماقها فترسم للقدس ، لبغداد ، للوطن وللإنسان لوحة تنطق بما تكابده من آلام وآمال. فلنقتطف من قصائدها مقاطع أبدعت في تصويرها ومعانيها المبتكرة ذات الصبغة التأملية والحكمة الفلسفية. @@@ في قصيدة "الأرض لي" تتشبث بحقنا في أرضنا: الأرض لي / والعشق لي / والورد من قلب حبيبي ينادي هذي بلادي / بغداد لي.. والقدس لي فيا أيها الغازي المعادي / إقرأ كتاب خروجك الأبدي من أرضي ومائي / كارهاً أو مرغماً / ارحلء بعيداً .. بعيداً عن كل أجوائي وفي "أصبح التأويل ظرفاً" يتملكها اليأس ويعتصر قلبها أسىً يخاطب مواجع الإنسان في أعماقها فيأتي تصويرها الشعري كلوحة تشكيلية: أيها الإنسان لا تخش الكفن / قل وداعاً للحضارة ليس في الأفق بريق أو بشارة / من ربوع الشام حتى تورا بورا من خليج التبر حتى قندهار / ساد هذا القتل وامتد الضياع وتوارى الحب في كل البقاع.. وتهزج الشاعرة لأطفال العراق وتهدي لهم "سوف أكبر" صرخة مجلجلة في وجه الطغاة مغول القرن الحادي والعشرين: أيها الغازون السارقون حليبي ودوائي / كيف أكبر؟ عشرة أعوامٍ واكثر / وقذائفكم بالحقد ترميني وتغدر إلى أن تقول: ارفعوا شظايا بارودكم عن رحم أمي فأنا من سرّ (جلجامش) أولد.. لا أبالي بطراوة لحمي / أو تفاصيلي الخجولة فغداً أنمو / أتسامق / تصدح في صدري هتافات الرجولة @@@ ولنستمع إلى صدى صرختها تتفجر وعيداً وأملاً في "الكأس تدور": مهلاً.. يا هذا القادم من "تكساس" مختالاً تتلبّسك بقايا عجاف البقر لا تحسب دربك مفروشاً بالزهر أو النصر فالكأس تدور بصاحبها / والكذبة مهما طال مداها هي عجزٌ مفضوحٌ بالسّر أو الجهر لن يسعفك ذكاء قنابلك ثم تستطرد قائلة: فهولاكو قد مرّ بنا يوماً وكذا سيكون مصير"مغول العصر.!" وتتابع الشاعرة مكابداتها وتساؤلاتها بخصوصية شعرية متميزة تستلهم كل ما هو إنساني في قصائدها: "على مرأى الدنيا" و "الأرض قد فاضت زلزلة" و"ماجدوى أن أحيا" و"مذ أشعلت العتمة لظى أشباحها" .... وفي الوحدة الثانية "في صومعة الوجد" تعالج الشاعرة موضوعات وجدانية المضمون برموز روحانية تكاد تقترب من "الصوفية" وحين التراتيل تخلع عنها القاصي / نغيب لنلحظنا في كل سرٍ ظاهر أو باطن في كل فجرٍ تراءى لنا / أو كنا معاً في رجفة الليل / شهدنا بزوغ خطاه ويعلو صوت الأنثى في قصيدة "الغيرة" معبراً عن مكابدات العشق: أفبعد تصوّفنا في العشق كتابٌ يا من بأصابع نارٍ يكتبني ويكويني يا من لا قبل ولا بعد عرفت ومن أجلك متّ / لأحييك وتحييني وحين تقسو المرارة وتعلو وتيرة الألم والحزن وخيبة الأمل يتأجج في قلب الشاعرة إحساس بالغبن في "رجوتك ألاّ تجيء": ( أما آن لي أن أفكّ طلاسم هذا الزمان الخؤون الرديء؟) أما آن للظلم أن ينجلي كي ما بعدلٍ نستضيء..؟ وعلى هذا المنوال في بقية قصائد هذه الوحدة نستشف بأن كشغري مسكونة بحلم الكلمة المعبرة عن طقوس النفس الإنسانية موقظةً "الفتنة النائمة": الطفل الأشهب في داخلي الأنثى الباسقة../ جنة النغم والجرح إعصار الوجع المكابر في أضلعي جميعها تحيا وميعاد شوق بدائيّ.. هكذا يتلبسك شوق متجدد وأنت تتتبع قصائد هذا الديوان التي تمازج بين أسلوب تأملي وإبداعٍ لغوي يحاول تجسيد رؤىً عميقة تأخذك إلى فسحات من التأمل والتحليق.