ربما لا ينكر أحد أن سقوط بغداد والقبض على الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين هما الحدث الأبرز خلال عام 2003م.. سقوط بغداد "المأساوي" وغير المتوقع على الأقل بهذه السرعة من الانهيار كان حدثاً غير اعتيادي خاصة في جو الشحن والتهديد المتبادل بين نظام بغداد وقوات ما أطلق عليه التحالف الأنجلو أمريكي .. واعتقال صدام حسين جاء إكمالا لسلسلة البحث عن إبرة وسط كومة القش العراقي. الطريقة التي أظهرت بها القوات الأمريكية سيناريو اعتقال صدام ونشره على العالم بهذه الطريقة المهينة بالفعل جعلت الكثير من المحللين يبحثون وراء الحدث ويطلقون العنان لخيالاتهم لتصور من نوع ما، قد يرضيهم أو يشبع شيئا ما نختلف أو نتفق معه.. الروايات كثيرة، أهمها ما نشرته صحيفة (الأسبوع) المصرية منذ أسبوعين تقريبا عن سيناريو الاعتقال وما أوردته الصحيفة من معلومات جديرة بالاهتمام أو بالقراءة على الأقل وربما في أسوأ الاحتمالات إخضاع ما جاء لمنطق العقل. الروايات كثيرة.. ولعل ما صرح به مصدر خاص جدا ورفيع حول حقيقة وظروف وملابسات الاعتقال يسير في نفس الاتجاه.. 1/ صدام لم يعتقل وقت إذاعة الخبر وإنما اعتقل قبلها بشهر أو اثنين على الأقل. 2/ الولاياتالمتحدة تورطت في القبض عليه.. فقد كانت تريده جثة، أي قتيلا.. وليس حيا. 3/ ان القوات الأمريكية كانت تدرك أن في القبو صيدا ثميناً.. ولم تكن تتوقع أبدا أنه صدام، بل الترجيحات كانت لصالح شخصيات أخرى.. من هنا تمت عملية تخدير القبو كله بغاز مخدر، وكان من الممكن قتله وإظهار الأمر وكأنه معركة أو مقاومة وانتهى الأمر. 4/ إظهاره بهذه الصورة يعكس المأزق الأمريكي، وكيفية التصرف معه.. أي محاكمته، وعلى أي أساس وقانون ومن يتولى المحاكمة، وهل سيحكم عليه بالإعدام كما تفضل أم يستجيبون للمعارضة البريطانية والبرتغالية وغيرها بعدم تنفيذ الإعدام. 5/ الرطب الأصفر الذي ظهر في صور القبض على صدام .. أظهر بوضوح التناقض إن لم يكن الكذب في مسألة توقيت الاعتقال. 6/ أما حكاية الجرح فوق الحاجب الأيسر وطريقة علاجه ومقارنته بين صورتين نشرتهما قوات الاحتلال فتدل هي الأخرى على تكذيب التوقيت. 7/ تبقى الحقيقة.. وحدها هي الغائبة، لأنها أصبحت مرادفا وحيداً لمن يملك القوة!! في ساعة مبكرة من صباح الأحد 14 من ديسمبر وجه الحاكم الأمريكي في العراق بول بريمر الدعوة إلى عدد محدود من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، كان اللقاء سريا وغير معلن، وكان ضمن الحاضرين عدنان الباجه جي رئيس المجلس وموفق الربيعي وآخرون. بدا بول بريمر منتشيا، تحدث معهم بكل ثقة :لقد ألقينا القبض على صدام حسين، وهو الآن بحوزتنا'.. لم يصدق الحاضرون الخبر، بدت الدهشة على وجوههم واضحة، كانت الأسئلة تلاحق بول بريمر، هل هذا الكلام صحيح؟ متى حدث؟ وكيف وأين؟ هل تأكدتم أنه فعلا صدام وليس شبيها له؟ بعد قليل اصطحبهم بول بريمر إلى مكان سري، يا للهول.. إنه فعلا صدام حسين، كان الرجل يبدو كأسد جريح، لحية طويلة غير مهذبة، شعر الرأس يبدو مبعثرا وكأن الرجل خرج لتوه من كهف سحيق.. نظر صدام حسين إلى أعضاء مجلس الحكم باستهانة، ووضع رجلا على رجل في مواجهتهم وراح يوجه شتائمه إليهم. سألوه عن مواقفه، حاولوا استدراجه في الحديث إلا أن إجاباته كانت مقتضبة، وتتميز بالسخرية وتعبر عن مواقف عنيدة يرفض الرئيس أن يتراجع عنها. حلم لا يصدق خرج أعضاء مجلس الحكم من الاجتماع وكأنهم يشاهدون حلما لا يصدق، معقول، إنه فعلا صدام حسين، نفس اللغة، نفس الثبات، نفس القدرة على المقارعة.. فقط عينان زائغتان، تغوصان في المجهول وكأن الرجل قد أجبر على تناول حبوب مخدرة. بعد قليل بدأ الخبر يتسرب، جرت الاتصالات بطالباني في إيران، لم يتمهل، كان أول من أعلن الخبر من طهران ثم راحت وكالة الأنباء الإيرانية تبث الخبر إلى العالم.. تكهربت الأجواء الإعلامية، أعلنت حالات الاستنفار، الكل يتساءل، يستفسر، المحطات الفضائية بدأت تعد الأفلام الوثائقية، تجري الاتفاقات مع المحللين السياسيين انتظارا للحظة الإعلان. بعد قليل راحت الأخبار تتدفق، مصادر مجلس الحكم الانتقالي تعلن أنها على يقين من صحة الخبر، مصادر في البنتاجون لا تستبعد، ثم خرج توني بلير ليهنئ العراقيين بالقبض على صدام. انتظر الصحفيون لحظة الإعلان الأمريكي، وجاء الخبر: بول بريمر سيعقد وإلى جواره قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ريكاردو سانشيز ورئيس مجلس الحكم الانتقالي بالنيابة عدنان الباجة جي مؤتمرا صحفيا في الثانية من ظهر الأحد بتوقيت القاهرة. وفي الثانية ظهرا كان بول بريمر يعلن النبأ، انفجرت القاعة صراخا وهتافا، فقد بعض الإعلاميين الذين جيء بهم أعصابهم وراحوا يرقصون بصورة هزلية.. فتح الباب أمام الأسئلة وكانت المفاجأة: صدام حسين يظهر في شريط فيديو جرى عرضه أمام وسائل الإعلام. نعم..إنه هو صدام حسين، نفس العينين، ملامح الوجه، حركة الرأس ذاتها، كل شيء يقول إن هذا الرجل هو صدام حسين.. وحتى اللحية الكثيفة لم تقف عائقا أمام التعرف عليه. راح العالم يضرب أخماسا في أسداس، وكالات الأنباء والصحف ووسائل الإعلام تطرح تساؤلاتها، تفتح أبوابها للمحللين، بينما الشارع العربي راح ينقسم بين من يقول إن هناك أسرارا في الأمر.. ربما كان شبيهه، أو ربما كان هو بالفعل، ولكن عملية اعتقاله سبقت الإعلان بكثير.. تجمعت خيوط الصورة كاملة. بوش وبريمر كان بول بريمر قد حدد سلفا موعدا لأحد المسئولين الدوليين لاستقباله في بغداد، وصل المسئول، لكنه لم يجد بول بريمر، لقد أبلغ أن بريمر استدعي على عجل لمقابلة الرئيس جورج بوش في الولاياتالمتحدة. أبدى المسئول الدولي غضبه، إن بريمر لم يقدم له حتى مجرد اعتذار، لقد أبدى الرجل دهشته من هذا السلوك المتعجرف وأبلغ غضبته إلى من التقوه ليبلغوه اعتذار بريمر. كان العنوان المعلن لهذا الحدث أن الرئيس الأمريكي جورج بوش استدعى بريمر على عجل للبحث عن خطة لنقل السلطة إلى العراقيين بعد تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية على الساحة العراقية، وقيل في هذا الأمر كلام كثير. انطلقت طائرة خاصة من مطار بغداد تقل بول بريمر ومعه وبشكل غير معلن بعض القادة العسكريين وكان هناك على الطائرة الرئيس صدام حسين'. انطلقت الطائرة من مطار بغداد لنقل مستقليها إلى البيت الأبيض في واشنطن، لم يكن أحد يعرف باستثناء قلائل أن هذا الشخص الذي جرى التعمية على مظهره هو صدام حسين. في هذا الوقت أشاع الأمريكيون في كل مكان كثيرا من الأخبار حول طرق البحث عن صدام ورسائل صدام وأعوان صدام وخطورة صدام. كانت أخبارا متعمدة ومعدة سلفا، ولكن لم يسأل أحد لماذا توقفت رسائل صدام حسين إلى شاشات التلفاز منذ هذا الوقت؟! وكانت آخر رسالة بثتها قناة العربية' بصوت صدام حسين قد أذيعت خلال شهر رمضان، وهي رسالة يبدو أنها أعدت سابقا، وأن عملية بثها في هذا الوقت الذي كان فيه صدام في أيدي القوات الأمريكية هو الذي أثار أعضاء مجلس الحكم العراقي الذين تلقوا توجيهات من بول بريمر بإغلاق مكاتب قناة العربية' في بغداد عقابا لها على بث هذا الشريط الذي أعاد صدام لدائرة الفعل، بالرغم من أنه كان بأيدي الأمريكان. الخبر الصدمة كان خبر مقتل عدي وقصي نجلي صدام حسين وحفيده مصطفى في يوليو الماضي بمثابة الصدمة للأب، لم يصدق الرئيس ما جرى، كان يظن أن قراره بإبعادهم عنه يعني توفير الحماية لهم، لكنهم سلموا من قبل الرجل الذي ظن أنه سيحميهم واستشهد الثلاثة في معركة اثبتوا فيها صلابة منقطعة النظير.. اهتز وجدان الأب، ظل أسبوعا كاملا يرفض تناول الطعام، كان كثيرا ما يهذي بكلمات غير مفهومة. منذ هذا الوقت بدأت القيادة العسكرية الأمريكية في العراق أولى خطوات الخطة الجديدة للبحث عن صدام حسين واعتقاله، كانت الخطة تحت اشراف مباشر من الجنرال ريكاردو سانشيز يعاونه في ذلك الجنرال أودرينو قائد الفرقة الرابعة. قامت الخطة على افتراض يقول: إن صدام سيحاول اللجوء إلى عشيرته وإلى بلدته تكريت من أجل الاحتماء بها، خاصة أن الكثير من أفراد الحرس والمرافقين الشخصيين للرئيس بدأوا يبتعدون عن نطاق مكان صدام بعد مقتل نجليه وراحوا يمارسون مهامٌ أخرى، فانضم بعضهم إلى فرق المقاومة الميدانية بينما راح آخرون ينظمون أجهزة جمع المعلومات لصالح المقاومة. كان صدام محبطا جراء استشهاد نجليه وحفيده، لكنه كان مصمما على الاستمرار مهما كان الثمن، كان يقاوم الإحباط بكل ما يملك وراح يبعث بشريط إلى قناة العربية' ينعى فيه ولديه ويعلن استمرار المقاومة حتى النصر. كانت البداية الأولي عندما تم اعتقال ثلاثة من مساعدي صدام الرئيسيين وهم من الحرس الشخصي له، وكانوا على قدر كبير من الأهمية، لأنهم كانوا معنيين بتحركات صدام وكذلك المخابئ السرية التي كان يزورها قبل سقوط بغداد، وكان ذلك أمرا مهما للأمريكيين لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه المخابيء توجد تحت القصور الرئاسية، بذلوا الكثير من الجهد من أجل كشف أسرار هذه المخابيء إلا أنهم فشلوا. وكانت الفرقة الرابعة والجنود الأمريكيون يقومون بتفتيش هذه القصور الرئاسية مرتين في اليوم الواحد احتمالا لوصول صدام إليها في أية لحظة، وكانت القصور المستهدفة حوالي 20 قصرا، أكثرها أهمية تلك القريبة من نهر دجلة. وأمام هذه المعضلة بدأ سيمون دارايز أحد أبرز قيادات ال'سي. آي. إيه' في العراق في وضع خطة جديدة لاعتقال صدام. كان دارايز يرى أن صدام لن يتعمد المرور في المخابيء السرية لهذه القصور لأنه يعلم جيدا أن القوات الأمريكية تفرض حصارا من السياج الأمني القوي على هذه القصور، وأن أفراد حرسه الشخصيين الذين تم القبض عليهم أدلوا بمعلومات تفصيلية عن المخابيء السرية في هذه القصور أثناء العمليات العسكرية الأمريكية على العراق وأنه يعلم أن الأمريكيين عرفوا جيدا هذه المعلومات، وأن صدام لن يكون من الغباء بحيث يستخدم هذه المخابيء مرة أخرى، خاصة أن صدام معروف بالذكاء وإجادة التمويه والتغطية على تحركاته، كما أنه يعرف جيدا طبيعة الأراضي العراقية. وقد كتب سيمون دارايز هذا التقرير في أغسطس الماضي وأكد في تقريره أن الأماكن التي من المحتمل أن يتواجد فيها صدام لن تخرج عن أحد مكانين: إما في منزل أسرة بعيدة عن بغداد وأنه يثق في هذه الأسرة كثيرا وهي قادرة على حمايته. وإما أنه في منطقة مهجورة وغير مأهولة بالسكان وأن صدام أعد لنفسه مخبأ في هذه المنطقة وأن هذا المخبأ سيكون بالقرب من عشيرته وبلدته تكريت. وكان دارايز يرى أن صدام حسين لايمكن أن يكون قد غادر العراق فهذا احتمال بعيد من خلال معرفة شخصية صدام التي تأبى الهروب. ورأي دارايز ضرورة التركيز على الحرس الشخصي ومرافقي صدام الذين يعرفون تحركاته في الفترة القادمة، وكانت الخطة تقول إن البحث عن الكبار واعتقالهم بزعم أن هؤلاء هم الذين سيؤدون إلى اعتقال صدام حسين هي فكرة خاطئة وغير صحيحة. وكانت فكرة دارايز ترى ضرورة تنحية القوائم والخطط التي اعدها الأمريكيون للوصول إلى مكان صدام خاصة بعد الفشل الذي منيت به هذه الخطط في الفترة الماضية. وكانت الخطة الجديدة التي وضعها دارايز تقول : إن الصيد الثمين الذي يمكن أن يقود إلى مكان صدام هم قادة الحرس الشخصي والذين لم يتركوه حتى بعد سقوط بغداد. الخيوط الأولى كانت المؤشرات الأولية التي بدأت تتجمع في اغسطس الماضي تقول إن هناك اشخاصا أكدوا انهم رأوا صدام في جنوببغداد مرة ورأوه في تكريت مرة وفي عدة مناطق أخرى. وهكذا راح الفريق الجديد للمخابرات الأمريكية في العراق بقيادة سوارزكيفان' يجمع خيوطا من المعلومات حول الأشخاص الذين يروون تفاصيل تحركات صدام وكذلك كيفية مشاهدته والأشخاص الذين كانوا يحرسونه. كانت المخابرات الأمريكية قد جمعت اكثر من 100 صورة ل100 شخص من الحراس السابقين لصدام والمرافقين لتحركاته وأقربائه، وكانت هذه الصور يتم عرضها على الأشخاص الذين يدلون بمعرفتهم لصدام وقربهم منه. وكان السؤال المطروح عليهم هو كيف رأوا صدام؟ وكان السؤال الأكثر الحاحا هو عن الأشخاص الذين يقومون بحراسته ومرافقته وأوصاف هؤلاء الاشخاص والأماكن التي يترددون عليها. لم تكن المخابرات الأمريكية وحدها التي تواصل عملية البحث عن الرئيس العراقي، كان يعاونها أيضا فريق من الاستخبارات الإسرائيلية مكون من عشرة افراد بمن فيهم رئيس قسم العمليات والاستطلاع بجهاز الموساد. وهكذا وبعد تحقيقات مكثفة وعرض صور الحراس على المقبوض عليهم، تأكد لدى المخابرات الأمريكية والإسرائيلية أن صدام لم يبق إلا على اثنين فقط لحراسته، وأنه استبعد كل الآخرين وقد تطابقت الاوصاف التي ادلى بها هؤلاء عن الحراس مع رؤية بعض الأشخاص للرئيس في تكريت وآخرين عن رؤيتهم له في الرملة وكذلك في كركوك وتحدث المقبوض عليهم عن أن هذين الحارسين كانا من أكثر الذين يثق فيهم الرئيس صدام. تركزت التحقيقات بعد ذلك في معرفة كافة التفاصيل عن تحركات هذين الشخصين والسعي من أجل القبض عليهما وأسرهما. وتجمعت المعلومات التي ساعد فيها أفراد من المخابرات العراقية، واستطاع الفريق الأمريكي الإسرائيلي القبض على واحد من المقربين للرئيس صدام واسمه عصامي عبود' في أواخر اغسطس الماضي وجرب معه الأمريكيون والإسرائيليون كافة أساليب التعذيب والقهر النفسي لمعرفة مكان صدام إلا انهم فشلوا في البداية، وتحت ضغوط نفسية وبدنية عنيفة استمرت 18 يوما متصلة اعترف عصامي عبود بأحد المخابئ المهمة لصدام في جنوببغداد. وشكل اكتشاف هذا المخبأ نقطة محورية وجوهرية في مسار الخطة الأمريكية التي التزمت بالسرية المطلقة، وقد وجد هذا المخبأ في منطقة مهجورة وأن المخبأ كان يشبه المخبأ الأخير الذي عثر فيه على الرئيس صدام. كان المخبأ داخل غرفة ومنها إلى حجرة عميقة، وكانت الحفرة التي تؤدي إلى الحجرة العميقة تبدو وكأنها ضيقة مثل الحفرة التي وجد فيها صدام. وبناء على معاينة هذا المكان الذي حرص رجال المخابرات الأمريكية أن يحيطوه بالسرية الكاملة وكذلك دخوله والخروج منه بحذر شديد دون المساس بالمقتنيات التي كانت تبدو في غاية البساطة بداخله أدرك الفريق الأمريكي الإسرائيلي أن يدهم قد اقتربت من صدام. وأحس رجال الاستخبارات الأمريكية أن صدام يتعامل بذكاء شديد خلال زيارته لهذه المخابئ المهجورة حيث إنه كان يضع علامات دقيقة للتأكد عما إذا كان أحد قد دخل إلى هذه المخابئ أم لا، وكان في اعتقاده وهواجسه الأمنية أن الأمريكيين سينصبون له كمينا في أحد هذه المخابئ. وقد أكد عصامي عبود خلال التحقيقات أنه ليس لديه علم إلا بثلاثة مخابئ أخرى في الرملة وكركوكوجنوببغداد وبالتالي لم يكن عصامي يعرف شيئا عن مخبأ "الدور" في تكريت الذي عثر فيه على صدام حسين فيما بعد. .. والموساد هنا بدأ الفريق الأمريكي الإسرائيلي يجري متابعة دقيقة ومكثفة للمخابئ الثلاثة التي أشار إليها عصامي عبود، إلا أن المتابعات أكدت أن صدام لم يتردد عليها نهائيا مما جعل القوات الأمريكية التي كانت تراقب هذه المواقع يتأكد لديها أن هذه المخابئ مهجورة، وأن المعلومات التي أدلى بها عصامي ليست دقيقة. كانت هناك في المقابل وجهة نظر أخرى تشير إلى أن هناك عددا آخر من هذه المخابئ وفي مناطق متفرقة من العراق، وأن صدام يستخدمها بالفعل لأنه لم يعد لديه أمل في استخدام مخابئ القصور الرئاسية أو المخابئ الأخرى الشهيرة التي تتحمل ضربات القنابل الأكثر شراسة. كان الجنرال آروس بيكومان' أحد أبرز رجال فريق الاستخبارات الاسرائيلية هو أول من أشار إلى ضرورة البحث عن هذه المخابئ داخل تكريت والمناطق المهجورة حولها وخاصة لدى أقربائه، لأن هذه المخابئ من المؤكد أنه سوف يتم حمايتها بأشخاص يثق فيهم صدام كثيرا ويتحرك وسطهم بنوع من الأمان. وكان التقرير الذي اعده آروس' مثار بحث دقيق من الاستخبارات الأمريكية وقيادة الفرقة العسكرية الرابعة التي كانت مكلفة بعملية القبض على الرئيس صدام وكانت هذه الفرقة قد زودت بعناصر من الكوماندوز الأمريكيين يدعمهم أربعة من الطيارين الكوماندوز الإسرائيليين الذين كانوا سيكلفون باستخدام طائرات أمريكية لضرب السيارات التي ستهرب من موقع القتال في حال ادارة معركة طويلة اثناء عملية القبض على الرئيس صدام، وذلك بذات الطريقة التي يقومون بها لضرب القيادات الفلسطينية وكوادر المقاومة في الاراضي الفلسطينية خلال تنقلهم بالسيارات. وقد رأى آروس' في تقريره أن المكان الذي سيختبئ فيه صدام لن يثير أي شكوك وأن الحراسة الأمنية ستكون بعيدة عنه، وأن هذه الحراسة ستكون من أقربائه والمحيطين به. وبناء على هذا التقرير تم التوجه إلى اعتقال أقارب صدام وأصهاره والحراس الذين كانوا قريبين منه والذين هم من أصول تكريتية. كان واضحا أن الخطة الأمريكية الجديدة ستقود حتما إلى نتيجة هامة، ولذلك ظلت قاصرة فقط على بول بريمر والجنرال ريكاردو سانشيز وقائد الفرقة الرابعة والفريق الذي سيقوم بعملية التنفيذ. كان الأمر يمضي بسرية مطلقة، وبدأت القوات الأمريكية في تنفيذ خطة اعتقال أقارب صدام والحرس المنتمي إلى تكريت بسرية بالغة، وكانت تمارس مع المقبوض عليهم كل وسائل الضغوط النفسية من أجل الاعتراف بمكان صدام، وكان عدد الذين سقطوا من آثار التعذيب وابدوا استعدادهم للتعاون مع القوات الأمريكية خمسة أشخاص في هذا الوقت، ثلاثة منهم من أقارب صدام وواحد من الحرس وآخر من أصهاره. الحفرة اللغز كان أحد هؤلاء المقبوض عليهم يمت بصلة قرابة مباشرة إلى صدام، كان أحد أخوال صدام قد مرض مرضا شديدا، وعلم صدام بهذا المرض فقام في وقت متأخر من مساء أحد هذه الأيام بزيارتين إلى خاله، وكان صدام يتحرك بثقة بالغة، حتى انه في آخر زيارة أخذ معه ابن قريبه إلى أحد مخابئه واعطاه خمسة آلاف دولار لاستكمال علاج والده. وكانت الفاجعة أن جرى القبض على هذا الابن في اليوم التالي والذي يبلغ عمره حوالي 35 عاما. مارست القوات الأمريكية ضغوطا شديدة على هذا الشاب وعرضته لتعذيب نفسي وبدني رهيب حتى يعترف على المخبأ الذي يتواجد فيه صدام .. وفي اليوم التالي كان الشاب يعترف، حيث أخذهم إلى أحد المواقع المعينة وأشار إلى منزل من طابقين وأكد لهم انه ظل خارج هذا المنزل عندما قام بتوصيل الرئيس صدام وتسلم منه مبلغ الخمسة آلاف دولار. وقد داهمت القوات الأمريكية هذا المنزل وقامت بتفتيشه تفتيشا دقيقا استمر لثلاثة أيام في أكتوبر الماضي، وانتهى الأمر إلى اكتشاف مخبأ مهم في هذا المنزل، وكان المخبأ يشير إلى وجود حفرة تؤدي إلى اتساع نحو حجرة يمكن ان ينام فيها شخص ومن أعلى كانت الحفرة مغطاة بالحشائش. وقد عثر رجال الفرقة الرابعة على آثار حديثة للأكل وآثار أخرى تدل على أن صدام يعتاد الاقامة في هذا المنزل، وكان ذلك كفيلا بأن يؤكد للأمريكيين والإسرائيليين أن الصيد الثمين اقترب. في سرية تامة تم نصب عدة أكمنة من أجل الالتفاف حوله والقبض عليه، وقد استمرت هذه المراقبة أسبوعا دون أن تسفر عن شيء. كان لدى رجال الاستخبارات الأمريكية شك بأن صدام ربما أخذ علما بالهجوم الأمريكي على هذا المخبأ، خاصة أن صدام لديه رجاله وهو إذا عرف أن الأمريكيين هاجموا موقعا فهو لا يزوره أبدا مرة أخرى. وفي اليوم الثامن من مراقبة المنزل كانت المفاجأة، اقترب أحد حراس صدام وكان من أقربائه من المنزل، كان هذا الشخص يبدو أنه مكلف من صدام لاستطلاع المنزل والتأكد من أمنه، دخل هذا الشخص إلى المنزل بعد أن تأكد من عدم وجود أحد خلفه، ثم اختفى عن الأنظار. في هذه اللحظة كان هناك رأيان يتصارعان لدى أوساط الفرقة الرابعة، رأي يقول بالقبض على هذا الشخص وإجباره على الاعتراف بمكان صدام الذي يختبئ فيه .. ورأي آخر كان يرى أن يترك هذا الشخص ويتابع للوصول إلى المكان الذي يختبئ فيه صدام في الوقت الحالي. وبسرعة البرق تم ترجيح وجهة النظر الأولى فتم القبض على هذا الشخص، وأمام التعذيب الرهيب والتهديد بالقتل بطرق شنيعة انهار هذا الحارس بسرعة كبيرة واعترف بأن صدام سيأتي إلى مخبئه في هذا المكان بعد وقت قصير للغاية. نقطة أخرى ساعدت على تحديد المنطقة التي يتردد عليها صدام حسين، فقد استخدمت الفرقة الرابعة أحدث أجهزة التقاط الاتصالات السلكية واللاسلكية، وأن هذه الأجهزة تم نشرها في مساحة تقدر بأربعة كيلو مترات حول المنطقة التي يمكن أن يتواجد فيها صدام، وأن نوعيات هذه الأجهزة الحديثة تم استخدامها في وقت سابق بأفغانستان وحققت نجاحات كبرى أثرت علي شبكة الاتصالات لتنظيم القاعدة حتى ان قيادات القاعدة تخلت تماما عن الاتصالات بالمحمول أو التليفون الثابت. الاتصال الخارجي وقد رصدت الاستخبارات الأمريكية اتصالا خارجيا يعتقد أن صدام اجراه مع شخص ما من مكان ما في المنطقة ومن داخل سيارة متحركة وهو أمر أكد للأمريكيين وجود صدام في هذا المكان .. وان الذي جزم بأن هذا هو صوت صدام كان طارق عزيز والذي أخبر أيضا أن الطرف الآخر في الاتصال هو زوجته التي كانت تناديه باسم صأبو عدنان' وأن الاتصال استمر حوالي 10 دقائق. لم يكن هناك متسع من الوقت لدى صدام فقد كان هو الآخر على مقربة من المكان ويبدو أنه شعر بالخطر من المكان الذي كان يختبئ فيه قبل وصوله، لذلك مضى إلى مخبئه ظنا منه أن حارسه يعد المكان .. ولم تكن لديه فكرة ان هذا الشخص قد ألقي القبض عليه من القوات الأمريكية، وإلا لاتجه إلى مكان آخر. دخل صدام إلى المنزل ومعه اثنان من حراسه، وحاول الشخص المقبوض عليه والذي يكن حبا كبيرا للرئيس صدام أن يضلل الأمريكيين بعيدا عن الحفرة، إلا أن القوات الأمريكية كانت قد توصلت إلى كل المعلومات من قبل حول الحفرة التي تؤدي للغرفة. في هذه اللحظة تأكد قائد العملية الأمريكية انهم فعلا في طريقهم للقبض على صدام، كان ذلك في أكتوبر وبدا القائد الأمريكي امام احتمالين: الأول أن يكون صدام محصنا بحراسة قوية وأن يدخل الجنود في معركة قوية وواسعة وهو أمر قد تترتب عليه خسائر فادحة في صفوف قواتهم. الثاني أن يكون صدام وحيدا مع حارسيه كما أكد ذلك الشخص الذي ألقي القبض عليه. كان الأهم من وجهة نظرهم هو القبض على صدام وعدم تمكينه من الهروب حتى لو أدى الأمر إلى قتله. كانت الفكرة جهنمية، طرحها واحد من قادة الفريق الأمريكي لماذا لا نلقي القبض عليه بواسطة هذا الشخص، انتبه قائد العملية للأمر وتساءل بلهفة.. كيف؟! كان صدام قد كلف هذا الشخص باحضار كميات من الطعام حسب اعترافات الحارس للقوات الأمريكية له ولاثنين من مرافقيه، هنا كانت الفكرة، قامت القوات الأمريكية بشراء الطعام المطلوب وتم حقنه بمواد مخدرة تؤدي إلى النوم العميق. بعد وقت قصير قام هذا الشخص الذي كان يسير وفقا للرغبات الأمريكية بحمل الأطعمة التي كلف بشرائها، دخل المنزل، واعطى الاطعمة لواحد من مرافقي صدام الشخصيين وهم بالانصراف العاجل مدعيا وجود أمر طارئ له في المنزل وانه سيعود ليلا. بعد نحو ساعتين من تناول الاطعمة، كانت المخابرات الأمريكية قد بدأت في استحضار أجهزة حديثة تأكد من خلالها الأمريكيون أن الاطعمة تم تناولها بالفعل.. وعلى الفور قامت القوات الأمريكية بمهاجمة المنزل حيث وجدوا الجميع في حالة نوم عميق، فقد كانت الأطعمة مخدرة بنسبة عالية. كان هناك مصور بكاميرا للفيديو وأخرى للتصوير يقوم بالتقاط المشاهد خطوة بخطوة. ثم حمل الثلاثة (صدام ومرافقاه) وهم في حالة نوم عميق، الآن تأكد قائد الفرقة الرابعة أن من ألقي القبض عليه هو صدام حسين بالفعل .. جرى التكتم على الأمر وأبلغ بريمر وسانشيز، الكل في حالة ذهول. وعلى الفور جرى ابلاغ رامسفيلد، الذي ابلغ الرئيس بوش بدوره وتم الاتفاق على أن يقوم بريمر وبعض القادة العسكريين باصطحاب صدام إلى واشنطن وعدم الاعلان نهائيا عن عملية القبض بل إن بوش طلب منهم اطلاق التصريحات التي تؤكد صعوبة العثور على صدام حسين، من هنا كانت تصريحات بريمر وسانشيز وقادة آخرين كانوا يرددون دوما أن البحث عن صدام كالبحث عن إبرة وسط كومة من القش. يومها أبدى المراقبون دهشتهم من معنى وفحوى هذه التصريحات إلا أن كافة التحليلات قادت إلى رؤية واحدة تقول إن القوات الأمريكية غير قادرة على الإيقاع بالرئيس العراقي، وإن اليأس اصابها من ندرة المعلومات وإن الرجل تاه وسط الزحام وأصبح العثور عليه هو بالفعل كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش!! .. وصلت الطائرة الآن وصلت الطائرة التي تقل بريمر ومعه صدام حسين إلى واشنطن.. تم اصطحاب صدام حسين في سرية بالغة إلى مكان ما داخل العاصمة الأمريكية. كان بوش يريد أن يرى صدام ذليلا راكعا قبل الاعلان عن خبر اعتقاله، وهذا هو السر الحقيقي في اصطحاب صدام إلى الولاياتالمتحدة. كان رامسفيلد هو الذي طلب من رجاله في العراق أن يأتوا بصدام حسين إلى واشنطن بأقصى سرعة. ومنذ القبض على صدام الذي رحل في سرية إلى زنزانة معزولة بالقرب من مطار بغداد قبل السفر إلى واشنطن وهو يحصل على جرعات مكثفة من الحقن المخدرة التي تذهب بالعقل في بعض الأحيان تجعل من يتعاطاها يدخل في نوم عميق لفترات طويلة. كانت هذه الحقن المخدرة تحتوي على خلطة من الهيروين والكوكايين بالاضافة إلى مواد كيماوية أخرى والمدهش أن هذه المادة المخدرة ليست من انتاج المخابرات الأمريكية وانما هي انتاج إسرائيلي صرف، وأن المخابرات الإسرائيلية درجت على استخدامها مع القادة الفلسطينيين الذين يتم القاء القبض عليهم واستجوابهم. كانت الجرعات المكثفة رهيبة ومؤثرة للغاية، فبعد أن يسلم المتعاطي نفسه للنوم العميق عندما يصحو يشعر بأنه مسلوب الارادة وغير قادر على تذكر الأحداث، كما أنها تشيع التفاؤل لدى الشخص فيتحدث وكأنه مع أصدقائه ومعارفه أما الشخص الذي يعتاد على هذه الحقن التي تسمى (سيراكس) فهو على استعداد لأن يفعل أي شيء مقابل الحصول على جرعة منها، وأن الأمريكيين بدأوا في استخدام هذا النوع من الحقن منذ اللحظة الأولى لاعتقال صدام. السؤال.. لماذا؟ ثمة سؤال يطرح نفسه عليك الآن عزيزي القارئ: وما الذي دفع الادارة الأمريكية أن تتأخر في اعلان نبأ القبض كل هذا الوقت؟. كانت الرؤية في البداية أن يدعو الرئيس بوش إلى مؤتمر صحفي عالمي في البيت الأبيض وبجواره بريمر يعلن فيه عن خبر اعتقال صدام. وفي هذا المؤتمر كانت هناك مفاجأة من النوع الثقيل تذكرنا بمفاجآت صرامبو' الهوليودية، فخلال المؤتمر وفي ذروته كان بوش سيقدم للعالم مفاجأة من النوع الثقيل صصدام حسين داخل قفص حديدي'. وكان الذين سيقومون بأداء هذا المشهد هم جنود الوحدة الرابعة مشاة بالإضافة إلى قائد العملية الذين نفذوا الخطة ونجحوا في إلقاء القبض على صدام حسين. وكان بوش ينوي أن يقدمهم فردا فردا إلى الرأي العام خلال مؤتمره الصحفي، وأن يكون صدام داخل القفص الحديدي مخدرا إلى حد سلب ارادته تماما. كان هذا هو التخطيط الأولي الذي طرحه رامسفيلد على الرئيس جورج بوش، وكان بوش في البداية يبدو مقتنعا بهذا السيناريو السينمائي المثير وذلك حتى تظهر أمريكا امام العالم وكأنها اليد الأقوى التي انهت اسطورة صدام داخل قفص حديدي. بعد وصول بريمر إلى العاصمة الأمريكية مصطحبا صدام عقد الرئيس بوش اجتماعا مع مستشاريه ومساعديه في حضور بريمر وقيادات الأمن القومي والقيادات العسكرية في العراق وشارك في هذا الاجتماع رامسفيلد ورايس وباول. وكانت كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي متحمسة لفكرة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في اظهار القوة الأمريكية وظهور صدام في حديقة البيت الأبيض امام وسائل الاعلام داخل القفص الحديدي. طلبت كونداليزا رايس أن يجري إعداد مسرح وتتم تغطيته بأغطية من كل جانب على شكل ستائر، وأنه وبعد عشر دقائق من استرسال بوش في خطابه أمام المؤتمر الصحفي وبجواره بريمر والقائد العسكري سانشيز، يعلن الرئيس الأمريكي لحظة الانتصار الحاسمة باعتقال صدام، وفي هذه اللحظة تحديدا يتم الكشف عن صدام مكبلا داخل القفص الحديدي. كان كولن باول وزير الخارجية يبدو غير مقتنع بحديث رامسفيلد وكونداليزا رايس، ابدى اعتراضه الشديد على سيناريو القفص الحديدي واعتبر أن تنفيذ ذلك السيناريو لن يكون موجها ضد صدام وانما رسالة موجهة لكل الشعوب العربية وقال بلهجة غلبت عليها الحدة إن هذا المشهد الذليل لن يقبله العراقيون انفسهم بل حتى اعداء صدام سيرفضونه، وأن ذلك سيؤدي إلى حدوث اضطرابات أمنية بالغة قد تصل إلى حد الثورة في داخل العديد من البلدان العربية. وتحدث بول بريمر قائد الادارة المدنية الأمريكية في العراق وأيد وجهة نظر كولين باول، وطلب ضرورة مراعاة الحالة النفسية للعراقيين الذين حتى وان اتفقوا على عدم حبهم لصدام إلا انهم سيرفضون اذلاله إلى هذا الحد. أما رامسفيلد ورايس فقد كانت وجهة نظرهما أن هذا الإذلال سيؤثر على معنويات المقاومة العراقية وينال منها وأن ذلك من شأنه أن يدفع كل هذه العناصر إلى القاء السلاح بعد ذلك، وأن هذا هو الذي سيعجل باستقرار الأوضاع على الساحة العراقية. منطق بريمر هنا تدخل بول بريمر وقال العكس هو الصحيح فمثل هذا الاسلوب سيزيد من حدة المقاومة العراقية وعملياتها الانتحارية ضد الأمريكيين، وأن الجنود الأمريكيين اذا كانوا مستهدفين بنسبة 50 % من افراد الشعب العراقي فإنهم سيكونون مستهدفين بعد هذا الاعلان بنسبة تفوق 90 % . وقد أيد أحد قادة القوات الأمريكية في العراق ما طرحه بول بريمر وقال إن الأوضاع معقدة للغاية في العراق وإنه إذا كان صدام مسئولا عن جزء من المقاومة إلا أنه لا يمثل الفصيل الرئيسي في هذه المقاومة المتشعبة، وإن صدام لم يعد ذلك الرجل القوي الذي تخشاه القوات الأمريكية في العراق، كما أن انصاره مشتتون وليسوا عناصر قوية. ورأى باول أن ذلك الطرح يعبر عن وجهة نظر سليمة وأن المهم الآن هو كيفية الاستفادة من هذا الشخص يقصد صدام ليجيب عن كل الأسئلة الأمريكية الحائرة. واقترح باول في هذا الاطار أن يتم تأجيل الاعلان نهائيا عن اعتقال صدام، بل وأن يتصرف بول بريمر وكل المعنيين على أنهم مازالوا يبحثون عن صدام حتى تنتهي المخابرات الأمريكية بالتعاون مع الأمن القومي تماما من التحقيقات مع صدام، على ان تبقى هذه التحقيقات سرية ودون اعلان. كانت وجهة نظر صباول' مفاجأة للجميع، وبعد أن اسهب في شرح المبررات انضمت اغلب القيادات العسكرية التي حضرت هذا الاجتماع إلى ما طرحه كولن باول. وقد أيد بول بريمر بدوره وجاهة هذا الرأي وقال إنه بعد الاعلان عن اعتقال صدام فإن العراقيين وكل الدول العربية سيرفضون أن يتحرك صدام بعيدا عن العراق، وأنه اذا أعلن انه سافر إلى واشنطن للتحقيق معه فسنواجه بضغوط دولية مكثفة من أجل الاعلان عن نتائج هذه التحقيقات أو المطالبة بأن يتولي هذه التحقيقات العراقيون انفسهم، الذين سيرفضون بدورهم أن تجري محاكمة صدام في داخل الأراضي الأمريكية. فيما رأى آخرون أن عدم الاعلان عن اعتقال صدام سيوفر الهدوء للاجهزة الأمريكية في الحصول على اعترافات مهمة من صدام خاصة فيما يتعلق بامكانات وجود أسلحة دمار شامل أو خريطة المقاومة العراقية وأسرار أخرى عن علاقته بعدد من الملوك والرؤساء العرب وبعض قادة دول العالم وكذلك مصادر تمويل الأسلحة العراقية في وقت الحظر الذي كان مفروضا على العراق، وأيضا صلة صدام بقادة الدول الأوروبية وخريطة مبتكرات وتطورات الأسلحة البيولوجية العراقية وغير ذلك من الموضوعات الهامة التي يجب اغلاقها نهائيا قبل الإعلان عن اعتقال صدام. وكان من رأيهم أن يتم التحقيق معه من الآن داخل الولاياتالمتحدة ثم يعاد مرة أخرى إلى العراق ليتم الإعلان عن اعتقاله من هناك. وتطرق حديث القادة مع الرئيس الأمريكي حول مغزى الإعلان عن اعتقال صدام أو تأجيله على عمليات المقاومة العراقية حيث كان رامسفيلد وكونداليزارايس يريان أن الإعلان سيؤدي إلى خفض حدة العمليات العسكرية وأن المقاومة العراقية يمكن أن تتوقف أو تستسلم للقوات الأمريكية، وأن هذا سيمهد الطريق للاستقرار السياسي في العراق إلا أن ديك تشيني نائب الرئيس والآخرين رفضوا هذه الرؤية لأن الإعلان عن اعتقال صدام سيعطي الفرصة لقادة المقاومة العراقية للهروب من الأراضي العراقية، بل إن إبقاء خبر اعتقاله سرا سيمكن القوات الأمريكية من اعتقال كافة عناصر وقيادات المقاومة العراقية التي تبدي تعاونا ملحوظا مع صدام. وعبر هذا الفريق عن وجهة نظره بأنه وبعد انتهاء عمليات المقاومة فإن الجيش الأمريكي في حاجة إلى المزيد من الضبط والحرص الأمني، وكل ذلك يستوجب فترة لإعادة ترتيب الوقت. وبعد نقاش طويل اقتنع الرئيس بوش بوجهة النظر تلك ووافق على تأجيل الإعلان عن القبض على صدام حسين. في هذه الفترة منذ القبض عليه وحتى قبيل نبأ الإعلان بقليل في 14 ديسمبر كانت قد مضت عدة أسابيع خضع فيها الرئيس العراقي لتحقيقات مطولة ومكثفة مع عناصر المخابرات الأمريكية التي قامت بنقله إلى أحدث مراكز المخابرات الأمريكية في فرجينيا، وأدخل لعدة مرات على أجهزة الكشف عن الكذب. ضغوط رهيبة ورغم كافة الاجراءات والضغوط والحقن المخدرة فإن صدام لم يبد أي نوع من التعاون مع فرق المحققين الأمريكيين الذين توالوا عليه صباحا ومساء. جربوا معه كل أنواع الضغوط النفسية والاغراءات الأخرى من أجل انتزاع المعلومات، إلا أن إجابة صدام على كافة التساؤلات كانت مقتضبة وتتميز بالحدة في كثير من الأحيان وكثيرا ما كان يصف محققيه بأنهم جبناء وأنذال وأنهم محتلون ليس للعراق فقط، ولكن لكل العالم، وكان دائما ما يتوعدهم بضربات قاتلة سوف يسددها إليهم العراقيون. سأله المحققون صراحة عن بعض المواد الأمريكية التي تسلمها أثناء الحرب الإيرانيةالعراقية والتي كانت مخصصة لإنتاج أسلحة دمار شامل، إلا أن صدام أكد لهم أن هذه المواد لم يعد لها أثر منذ انتهاء الحرب مع ايران.. وقد رفض صدام الإجابة عن التساؤلات المرتبطة بالأوضاع الداخلية في العراق أو الشخصيات القوية التي يمكن أن تعتمد عليها الولاياتالمتحدة في داخل العراق أو تلك التي لاتزال تتعاون معه. وكانت أكثر الضغوط التي مورست على صدام نفسيا هي تلك التي أرادوا من خلالها الحصول علي إجابة واضحة عن المكان الذي يحتفظ فيه بمعدات الجيش العراقي ودباباته التي تزيد على ألفي دبابة ومئات الطائرات التي اختفت فجأة، والكثير من الأسرار الأخرى المرتبطة بالتشكيلات العراقية. كان صدام يرفض بإصرار فحاولوا اغراءه بإبدائهم الاستعداد للإفراج عنه والعيش سرا في أمريكا دون إعلان إذا ما اعترف صراحة وأقر بمكان هذه الأسلحة والمعدات إلا أن صدام رفض الحديث نهائيا. كان رامسفيلد يتابع بنفسه مع جورج تينيت رئيس جهاز الاستخبارات الأمريكية وقائع التحقيقات مع صدام حسين وكانا يتساءلان دوما من أين له بكل هذه القوة في الصمود؟ لماذا يرفض التعاون وتقديم المعلومات عن شعب تخلى عنه ورفاق خانوه ومعدات لم تجد نفعا. حاولوا اقناعه بالحديث عن أسلحة الدمار الشامل وقالوا له إذا انقذت الرئيس بوش من مأزقه فسنوفر لك كل ما تريد.. إن الأمر لن يكلفك شيئا سوى أن تقر بأنك تخلصت من أسلحة الدمار الشامل قبل الحملة الأمريكية على العراق مباشرة، إلا أن صدام كان يسخر كثيرا من هذه الادعاءات ويقول: لن أجعل بوش يهنأ بانتصار وهمي وكاذب.. لن أبيع بلدي العراق حتى ولو وقفت وحيدا، وحتى لو خانني كل الرفاق والأصدقاء، بل وحتى لو أعلن الشعب العراقي كله التبرئة مني. كانت إجاباته مذهلة وكان صموده أسطوريا لذلك لم يتردد دونالد رامسفيلد لأن يخرج في أكثر من تصريح بعد إعلان القبض على صدام ليقول إنه شخص غير متعاون ولايزال يتمسك بكل مواقفه، وهو ما كرره أيضا أعضاء مجلس الحكم الانتقالي الذين التقوه في أعقاب القبض عليه بقليل. إلى العراق مرة أخرى بعد حوالي الشهر تقريبا أعادوا صدام إلى العراق مجددا جاء على متن طائرة خاصة وحوله عدد من كبار ضباط ال'سي.آي.إيه' والفرقة الرابعة الأمريكية مشاة وعدد من الخبراء الأمنيين الإسرائيليين. بعدها بقليل قرر ُجورج بوش أن يزور العراق سرا بعد أن ادرك ان الأوضاع الأمنية تتجه ظاهرا إلى الاستقرار باعتقال صدام حسين، فكانت نشوته واضحة، لكنه لم يرد أن يعلن نبأ القبض على صدام في هذا الوقت، ولحين اتمام المهمة كاملة حسب الاتفاق. لقد كان ملحوظا بدرجة كبيرة أن الزيارة المفاجئة التي قام بها بول بريمر إلى واشنطن يوم الاثنين العاشر من نوفمبر الماضي، أي قبل ما يقارب ستة أسابيع من الآن مرتبطة ببحث موضوع صدام، حيث التقى فور وصوله مع الرئيس الأمريكي جورج بوش وكبار مسئولي الأمن القومي على الرغم من أنه، ووفقا لتصريح أدلى به مسئول رفيع في وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون' فقد كان من المقرر أن يوجز بريمر للإدارة الأمريكية، وعبر الهاتف الخطط المتعلقة بما وصف تحريك مجلس الحكم العراقي قدما، وأضاف مسئول البنتاجون قوله: إن بريمر أراد بشكل ما أن يقضي وقتا أكثر مع رامسفيلد الذي كان من المقرر أن يغادر واشنطن آنذاك في جولة آسيوية. ويبدو أن مرور فترة زمنية كافية على اعتقال صدام، واستمرار هجمات المقاومة في تصاعدها بالرغم من ذلك هو الذي دفع بول بريمر لأن يدلي بتصريحات في الخامس من ديسمبر الجاري يتوقع فيها تزايد الهجمات ضد القوات الأمريكية، حيث تزامنت تلك التصريحات مع قيام وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد بزيارة مفاجئة للعراق. لغز البلح الأصفر وبعد ثلاثة أيام فقط من تصريحات بريمر كان الجنرال ريكاردو سانشيز قائد القوات الأمريكية في العراق يدلي بتصريحات يقول فيها: إن اعتقال أو قتل الرئيس العراقي صدام حسين لن يضع حدا لهجمات المقاومة العراقية. مضت الأيام ثقيلة، بول بريمر ينتظر لحظة الإعلان بفارغ الصبر وجاءت الساعة وكان الإعلان الذي قدم فيه شريط الفيديو الخاص بعملية القبض على صدام حسين. ويبدو أن نشوة النصر جعلت الأمريكيين يكشفون عن غير قصد عن كذب الرواية التي رووها عن عملية اعتقال صدام حسين. فبعد مضي كل تلك الفترة من القبض على صدام كانت أمور كثيرة قد تغيرت ولكنهم نسوا أن يقوموا بتجديد الصور التي أخذوها أثناء اعتقال الرئيس العراقي .. وجاءت الصور التي اذيعت على شاشات الفضائيات لتكشف حقائق المسكوت عنه في عملية القبض والاعتقال. كانت البداية هي البلح الأصفر الذي دللت عليه الصورة التي التقطت للمنزل والحديقة والأماكن المجاورة، إن كل من تابعوا مشهد الفيلم الذي تمت إذاعته ودققوا النظر في هذه الصورة تساءلوا عن هذا البلح الأصفر ومعناه خاصة ان أمريكا تعلن ان عملية القبض تمت مساء 14 ديسمبر، فهل هناك بلح أصفر في 14 ديسمبر؟! إن كل من يعرفون العراق يعرفون ان البلح الأصفر يظهر في الفترة من يوليو إلى أكتوبر من كل عام، ثم يختفي بعد ذلك ولذلك كان هذا الأمر هو الدليل الأول، بل والحاسم الذي يكشف عن كذب الرواية الأمريكية في الصميم. وهناك أيضا الصور التي تم بثها للرئيس صدام حسين والتي بدا فيها الرئيس ذا شعر طويل، غير مهذب ولحية طويلة غير منظمة، حيث كشفت الصور عن قيام الأمريكيين بصبغ شعر رأس صدام باللون الأسود واختفاء الشيب تماما في حين انهم لم يراعوا ذلك بالنسبة للحيته. فظهر فيها الشيب واضحا وتساءل الناس عن معنى وجود شعر للرأس بلا شيب بينما شعر للحية يبدو فيه الشيب واضحا ناهيك عن بقية المشاهد التي جري سردها. المأزق بقي أخيرا القول إن قضية صدام حسين تحولت إلى مأزق يواجه الرئيس الأمريكي، هكذا تحدث أحد المحللين الاستراتيجيين، فالرئيس الذي ظن ان القبض على صدام يمكن ان يساعد في انقاذ شعبيته المتدهورة في الداخل الأمريكي وجد نفسه أمام السؤال الكبير: ماذا يفعل وكيف يتصرف إزاء صدام حسين؟ البنتاجون يرى ضرورة التخلص من الرئيس العراقي نهائيا وقتله عبر التأثيرات المخدرة، لأن صدام حتى وهو رهن الاعتقال إلا انه مازال يمثل خطرا على الأمن العالمي خاصة أن لديه معلومات مهمة عن اتصالاته مع الرؤساء الأمريكيين السابقين والعديد من قادة العالم وان هذه الاتصالات لن يتم الكشف عنها لأنها تتضمن العديد من الأسرار التي لا يجوز الاطلاع عليها أو الافصاح عنها خلال تلك الفترة. ويرى قادة البنتاجون ان صدام يمكن ان يعلن عن هذه الأسرار إذا اتيحت له الفرصة للحديث إلى وسائل الإعلام وان أكثر ما يهم الإدارة الأمريكية هو بعض الاتصالات السرية التي جرت بين بوش الأب وصدام حسين، وكذلك مضمون هذه الاتصالات التي تكشف عن جانب مهم في عملية الغزو العراقي للكويت وان صدام لايزال يحتفظ بهذه الأوراق كأداة ضغط على الجانب الأمريكي حتى الآن. ويرى البنتاجون ان هذه الوثائق التي لم يعثر على أي منها في القصور الرئاسية لاتزال تمثل اللغز الأكثر إثارة لدى الجانب الأمريكي الذي يريد الاطلاع عليها، وان الرئيس بوش الابن يريد الحصول على هذه الوثائق بأي شكل وأن والده يعتبر أن قتل صدام أفضل من الحصول على هذه الوثائق وكشفها. وتتخوف الإدارة الأمريكية من ان يكون صدام قد أعطى هذه الوثائق السرية لشخص ثان مازال يحتفظ بها حتى الآن، وان صدام هو فقط المعني بالكشف عن أمر هذه الوثائق. تلك هي الحقيقة التي تكشف زيف ادعاءات بوش وإدارته، وكذب السيناريو الركيك الذي أعد لإخراج فيلم روائي يكشف مدى جهل وتخلف العقليات التي تقف من ورائه، وتلك التي تسير في فلكه. صورة للموقع نفسه.. وتبدو فيه الصورة