من يقف على حال مثقفينا اليوم يدرك تماما ان احد تصنيفاتهم هي ما بين الواقعية والمثالية او الماورائية كما يحلو للبعض ان يطلق عليها اذ يعيش البعض في احلام سرمدية يظللها بالامنيات في حين يحاول البعض الاخر النظر الى الواقع الفعلي كما هو ومحاولة ربط هذا الواقع بالمستقبل وتطوراته. وفي الواقع جاءتني فكرة هذه المقالة وانا أقرأ في كتاب فلسفي افلاطون وارسطو وكان الكتاب في احد فصوله يشرح فلسفة كل منهما في الحياة بالرغم من انهما متلازمان في عصر واحد ومن فكر واحد وهي المدرسة السقراطية. وفي مقالتي هذه سأستعرض البون بين الفيلسوفين موظفا ذلك لكشف الواقع الحالي لمثقفينا. عاش كل من افلاطون المعلم وارسطو التلميذ في القرن الرابع قبل الميلاد ولقد بنى هذان الفيلسوفان اليونانيان من مدرسة الفكر العربي. وكان الأول مثاليا وماورائيا الى حد الافراط اذ كان ينشد الكمال في كافة اطروحاته ولعل المدينة الفاضلة اصدق برهان على مثاليته في حين كان الاخر واقعيا الى ابعد الحدود فكانت المثالية والواقعية تتأرجحان بين المعلم والتلميذ وباختلافهما هذا مثلا الفكر الغربي الشمولي. والفرق بينهما واضح افلاطون يرى الواقع كما يريد حالما نظريا بعيدا عن الواقعية هاربا من العملية في حين ان ارسطو واقعي عملي حاول تسخير موسوعته في تنمية واقعه. ومن هنا هل بالامكان ان نقول ان اي انسان اما افلاطوني أو ارسطوي. اذ ان الاول يحاول ان يصل الى قيم لا توصف في حين يكتفي الاخر بالفعائل الواقعية. حتى في المجال السياسي فقد يمثل افلاطون المدينة الفاضلة أو العادلة والتي تأمل لها تنظيما متكاملا بتفاصيله الدقيقة بينما عاش ارسطو في زمنه لتقييم الواقع الراهن والكشف عن ايجابياته وسلبياته. ومن ذلك بالامكان الاستنتاج بان افلاطون يبحث عن حقيقة ماورائية مستقبلية سابقة الوجود من خلال عملياته التأملية ونماذجه الخالدة ويستمر افلاطون في محاولاته التأملية ويقترح دروبا راسما مئات الفرضيات وغالبا لا يصل الى استنتاج في حين يعكف ارسطو على فهم الواقع كما يعيشه محاولا فهم الوقائع وكيفية سيرها ناحيا بذلك الى المنهج البناء في تقييم الواقع وتنميته من خلال ربط امكاناته بالمستقبل. ولقد عرف اجتماعيا ان المثالي يتحول الى ثوري في تفكيره الى حد التطرف في حين ان الواقعي يكون اصلاحيا معتدلا حريصا على ان لا يخل بالنظام الاجتماعي. وهذه العبارة ينبغي ان تكون موضع اهتمام من هؤلاء الذين ينشدون الماورائية والمثالية من غير ربطها بامكانات الواقع فيصدمون ويصابون بالتحولات الفكرية المتطرفة ونصيحتنا لهم ان يكونوا اكثر واقعية وينظروا للعالم من حولهم ويقارنوا الحاضر بالماضي وليستثمروا بالجغرافيا لا التاريخ. نعود الى صاحب الفكر الماورائي اذ من الصعوبة تحديد فكر افلاطون فالاسلوب الذي يتبعه في اعماله يثير الريبة حتى انه نفسه رفض نشر كتاب حولها يشرح فيه وجهة نظره ولقد اكد هيغل في القرن التاسع عشر ان فكر افلاطون تنقصه المنهجية وكذلك يصعب التمييز في حواراته بين ما يعود الى معلمه سقراط وما ينسبه افلاطون الى سقراط ولقد اطلق عليه بعض الفلاسفة في القرون الماضية بان افلاطون صاحب تعليم سري. ولعلي اعلق هنا بان المستقبليين والذين يتأملون بالمستقبل وتداعياته يتهيبون من البوح بما يرون كونها فرضيات تحتاج الى اثبات. نعود الى ارسطو التلميذ مرة اخرى اذ دخل اكاديمية افلاطون ومكث بها دارسا لمدة عشرين عاما حتى وفاة المعلم عن ثمانين عاما. وصفه افلاطون بالقارئ اذ كان ارسطو عالما موسوعيا ولم يكن يمل من قراءة الابحاث والكتب في كافة المجالات سواء العلمية او التطبيقية ولعل ما يتميز به ارسطو انه لا يكتفي بالقراءة والتمثيل والاستنتاج بل يتجاوز ذلك الى تنظيم ما يقرأه ومن ثم اختباره للتأكد من صحته. ان عملية الاختبار هذه هي التي تكسب الانسان الخبرات العملية وتجعله معلما لنفسه ولعل هذا ما ينقصنا في مجتمعاتنا اذ علينا ان نتأكد مما نقرأه ونعمل على تطبيقه ومن ثم اكتسابه وان كان غير ذلك فالاولى الابتعاد عنه بل هذا ما ينبغي ان نعلم ابناءنا عليه في مدارسنا لكي لا نجعلهم فريسة للكلمة المطبوعة والمسموعة. ويطلق على ارسطو في بعض الادبيات انه التلميذ المتمرد على معلمه بل انه رفض ان يتبع المدرسة الافلاطونية حيث استطاع ان يبرهن ان وجود عالم آخر او مدينة فاضلة يعد من وهن الخيال واعتبر ان افلاطون ضيع سنوات عمره في تأسيس عالم من الكلام فقط ولا يتناسب مع اي شيء من الواقع. لكنه في نفس الوقت لم يكن تلميذا جاحدا لمعلمه مسخرا من نفسه مكملا لافلاطون وليس مدمرا لمدرسته حتى يقال بانه كان اشد اخلاصا للمشروع الافلاطوني من افلاطون نفسه فاستمر يبحث عن الحقائق من الواقع مستفيدا من دروس معلمه من غير ان يستمد هذه الحقائق من مبدأ خارجي او ماورائي. كما كان ارسطو صاحب فكر شمولي متفتح مع تمسكه بمنهج الواقع متمتعا بالتحليل المنطقي ومنسجما مع النظم العقلانية والفهم العميق للواقع المحيط وعلى عكس افلاطون لم يفكر ارسطو في بناء مجتمع جديد بل لم يكن يؤمن بوجود نظام سياسي مثالي ومحدد للجميع ولا بوجود ضمير واحد شامل للجميع. ولا يسعني في نهاية هذه المقالة الفلسفية ان اربأ بمثقفينا بالبعد عن المثالية والاقتراب من الواقعية وتبني منهج الفكر الواقعي الذي من خلاله نستطيع ان نستشرف المستقبل.. ولننبذ الماورائية والتي لا تغدو اكثر من كونها اضغاث احلام.