لم يأتِ أرسطو بآراء جديدة، بقدر ما حاول إعادة تبويب أفكار سابقيه وتطويرها، خصوصاً إرث أفلاطون، فتجد أن أهم ما جاء به أرسطو (يعرف بالمعلم الأول) هو أسلوبه الواقعي التحليلي، فلم يهدف إلى إعادة ترتيب العلاقات الإنسانية في المجتمع كما فعل أفلاطون، وإنما اتجه إلى بحث الأوضاع السائدة بتمحيص نحو 158 دستور دولة كانت قائمة في ذلك الوقت، حتى اعتبر «أبو الحكومات» المقارنة ورائد الواقعية، كما كان معلمه أفلاطون رائد المثالية. بعد توسع وجشع الإسكندر الأكبر حاكم مقدونيا ونشوب الصراع بينه وبين أثينا، تعرض أرسطو لتيارين معاديين مختلفين: تيار عدم شعبيته في أثينا، نتيجة لصلته بمقدونيا وتلميذه الأسبق الإسكندر، وتيار آخر تمثل في عداء الإسكندر نفسه، بعد تعرضه لمحاولة قتل فاشلة اشترك فيها أحد أبناء أخوة أرسطو، ليتمخض وضع أرسطو بالحكم عليه بالإعدام من أثينا بتهمة تدعيم سب المقدسات، بتهمة كانت شائعة وجاهزة للتخلص من غير المرغوب فيهم، ومن ضمنهم كان سقراط قبلاً، ولكن الفرق هذه المرة أن أرسطو نجا من الحكم، وابتعد عن أثينا حتى وفاته، ليسجل كتابه «السياسة» أهم إنجازاته في الفكر السياسي، والذي يعتقد أنه لم يتم في حياته، وإنما جمع بعد موته في مقالات وخواطر سياسية، ينقصها الترابط ويغلفها التكرار. كانت نقطة انطلاق أرسطو هي عين بداية أفلاطون في افتراض أن الفضيلة هي المعرفة، وأن الهدف الأسمى للدولة هو تحقيق الفضيلة، التي عرّفها أرسطو بأنها وسط بين رذيلتين، كالشجاعة وسط بين رذيلتي التهور والجبن، ومع ذلك فصل أرسطو بين الأخلاق والسياسة في تحليله، وإن كان في بعض النواحي ظل متأثراً بأفلاطون، مؤكداً ضرورة ارتباط المفكر السياسي بالسلطة السياسية، أما علم السياسة فاعتبره هو علم للسعادة أيضاً، إذ إن هدف الدولة الأساسي يكمن في تحقيق سعادة مواطنيها لا مجرد عيشهم المشترك وذلك عن طريق «السيادة»، وهذا هو الجانب الثاني لعلم السياسة، فالسعادة (الجانب الأول) لا تتحقق إلا في ظل الدولة، ولكن بالنظر إلى موقع السيادة (الجانب الثاني) في هذه الدولة وكيفية ممارستها، ليتوقف الأفضل في رأيه على الأوضاع والظروف، فالأحسن هو الوسيط المنطقي بين أمرين متطرفين، والعدالة التي هي أهم الفضائل لديه، فتتلخص في تقسيم الخيرات بين أهل المدينة، أي ما سمي بالعدالة التوزيعية، وتكملها العدالة التصحيحية الخاصة بحفظ التوزيع وتأمينه بتصحيح أي خلل يمس التوزيع. لتقسيم أنواع الحكومات استخدم أرسطو معيارين: الأول عددي أو كمي، ويقوم على أساس كم عدد القائمين بممارسة السلطة السياسية! والمعيار الثاني نوعي أو كيفي، ويتساءل لمصلحة من تمارس السلطة السياسية في الدولة! للحاكمين أم للمحكومين؟ ووفقاً للمعيارين فإن مقياس التفرقة بين الحكومات إنما يحدده مدى نقاء عمل الحكومة لمصلحة المحكومين، أي للصالح العام، أما مسألة نوعية الحكم الأفضل بالنسبة لشعب ما، فذلك تقرره الخصائص الاجتماعية لذلك الشعب، فالشعب القادر على إنتاج جنس متفوق في الفضيلة والقدرات السياسية أكثر ما يتلاءم مع الحكومة الملكية أو الارستقراطية، ولكن أياً من النوعين - الملكية والارستقراطية - لا يعتبر عادلاً أو مناسباً إذا كان عامة الأفراد متشابهين أو متساوين، فالشعب المناسب للحرية الدستورية هو الذي يوجد تشابهاً طبيعياً بين أفراده في الصفات والعادات ومستوى التعليم، ولذلك تجد أن الدستورية تختلف عن الارستقراطية في قبولها للأفراد على اختلاف الطبقات المجتمعية في تولي مناصب الدولة، في حين تجد أن الارستقراطية لا تملك نتيجة للفروق الواضحة بين مواطنيها أن تسمح بتقلد المناصب والمراكز في دولتها إلا للأفضل، والأفضل هو الذي يدار بواسطة الأفضل. [email protected]