المثقف مضخةُ أسئلة لا تكفُّ عن العمل والتدفق بعلامات الاستفهام، ولم يعرف الإنسان في تاريخه ثقافةً لا يحتضنها سؤالٌ يؤسس لها القواعد ويرفع البناء حتى يكتمل المعمار. والثقافة دائما ما تحمل ذاكرة نضالية لتحرير الإنسان من قبضة القَدَرِيَّةِ الاجتماعية التي تحاصره والمتمثِّلة في التقاليد والأعراف وغيرها. هذا كلام تأسيسيّ معروف، ولا شكَّ أنّ لدى كلّ مثقف رؤيته الفردية تجاه الحياة، ومن أجل هذه الرؤية يجب التضحية دون أن يكون هناك عدوان، وأحيانا يجب التواطؤ حتى مع التصادم الناعم بالآخرين من أجل الدفاع عن تلك الرؤية إذا اقتضى الأمر، ولكن يجب عدم مصادرة الآراء مهما بلغ الاختلاف. وإذا كان السؤال هو البناء وهو الباني للثقافة وللمثقف فيجب ألا يُؤجَّل إلى أجل غير مسمَّى مهما كلَّف الأمر. إنَّ الهدف الرئيس لدى كلّ مثقف هو أن يصنع ثقافة لها من القوَّة والمقوِّمات ما تفرض به نفسها على أرض الواقع ولا شيء يمكن أن يؤجل السؤال مثل أمرين، أوَّلهما : الانخراط المفرط في التنادي الاجتماعي على صعيد المناسبات العامة حيث تنصهر الرؤية الفردية داخل الرؤية الجماعية فتدمغ هذه تلك، وتذوب شخصيَّة المثقف في شخصية الجماعة لأنَّ كلّ انتماء جماعيّ يدعو في جوهره إلى قمع الفردية في النفس الإنسانية. ولكنَّ الإسراف في تلبية التنادي الاجتماعي ليس أخطر من العزلة المطلقة وهي الأمر الثاني الذي يؤجَّل السؤال لأنها تقطع حبل السرَّة الذي يربط بين المثقف والمجتمع، والعزلة قد تقود إلى تضخُّم الذات عبر تضخُّم الوهم داخل هذا المثقف، مثلما يمكن للتنادي الاجتماعي المفرط أن يشطب الحضور الذاتي تماما، وأن يسلخ الذاتَ سلخ الشاة على حبال الرضا والطمأنينة واليقين والاستكانة للوعي السائد. إنَّ الهدف الرئيس لدى كلّ مثقف هو أن يصنع ثقافة لها من القوَّة والمقوِّمات ما تفرض به نفسها على أرض الواقع. لذلك، يجب أن يكون مكانُهُ في منتصف الطريق بين هذين الرصيفين، والدليل الوحيد الذي يثبت صحَّة موقفه هو حجم إحساسه بالسلام داخله والمصالحة مع ذاته وذلك عبر إحساسه بالتوازن النفسيِّ الذي يعيشه في أعماقه. آنئذٍ، سوف تبقى سلالة الأسئلة تتناسل وتتناسل حتَّى يُخَيَّلُ إلى المثقَّف أنَّ هناك دائما سؤالا مؤجَّلا ما زال ينتظر ولادته. [email protected]