بدأت الحكومة الإسرائيلية الولوج في حالة مخاض سياسي وأخلاقي، تنهش من شرعيتها كحكومة رسمية تدير دفة السلطة في إسرائيل. فعلى غرار ما يسمى ب"وثيقة جنيف" التي استحدثها اليسار الإسرائيلي مع بعض من أوساط اليمين، وأعضاء كنيست وكتاب وضباط إسرائيليين، فإنها شكلت اختراقاً سياسياً كبيراً بصرف النظر عن عدم شرعيتها وقوتها في الشارع الإسرائيلي، ولكنها بالتأكيد أثرت على الإيقاع الشاروني وجعلته يتخبط في تعامله مع وجهة تلك الوثيقة وبما يتلاءم مع حالة التعصب والتخوف من توظيفها لتكون بديلاً عن حكومته. وقال المركز الصحفي الفلسطيني إنه لا يخفى على أحد أن حكومة شارون باتت تعاني الآن تشرذما سياسيا يعقبه تشرذم أخلاقي واجتماعي ليس في الحكومة فقط وإنما في المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً أن الاستطلاعات الإسرائيلية التي تتحدث عن نبض الشارع الإسرائيلي تؤكد ذلك، ناهيك عن نتائج الاستطلاع الأوروبي الصادر مؤخراً بطلب من المفوضية الأوروبية الذي يقول فيه 59% من الأوروبيين إن إسرائيل تشكل خطراً يهدد السلام العالمي، فإن ذلك يفيد أن حكومة شارون بجرائمها وعنصريتها قد استجلبت ردود فعل أوروبية عبرت عن نفسها بذلك الاستطلاع. ويرى المركز الصحفي أن ما تقوم به إسرائيل من عمليات قتل ومحاولة شطب وإبادة الشعب الفلسطيني، قد أحدثت صدمة لدى العديد من دول العالم والشاهد على ذلك قرارات الأممالمتحدة التي تصدر بحق إسرائيل، حتى بدا أن الأزمة الإسرائيلية خرجت من نطاقها الجغرافي المحدود إلى أزمة دولية تمثلت في عدم ثقة غالبية دول العالم بالحكومة الإسرائيلية. والملاحظ هنا أن الحرب الكلامية التي تشنها إسرائيل على عدد كبير من الدول قد بدأت تتهافت وتنتقل عدواها من القارة الآسيوية والأفريقية إلى القارة الأوروبية. لهذا يرى أن استطلاعا للرأي العام، الذي أجراه معهد "هجال هحداش" بالتعاون مع صحيفة "معاريف" العبرية قبل عدة أيام،أظهر أن هناك نسبة عالية من الجمهور الإسرائيلي غير راضية عن أداء رئيس الوزراء آرييل شارون. وقد تكيف الاستطلاع مع جملة العوامل والمتغيرات التي تعيشها الحالة الإسرائيلية من أزمة اقتصادية طاحنة إلى أزمة أخلاقية ثم اجتماعية ومؤخراً سياسية خارجية، والأهم من ذلك أن الأزمة الأمنية التي تعيشها حكومة شارون والتي ادعت استخدام أقصى مجهودها لتحقيقها وتقديمها على طبق من فضة للإسرائيليين، هي ما دفعت الجمهور الإسرائيلي إلى التمنع والغضب من حكومته. الاستطلاع الإسرائيلي تحدث عن أن 57% من الإسرائيليين غير راضين عن أداء شارون، وهذا يعني أن نسبة من هم غير راضين عن شارون سيزيدون مع كل وجبة استطلاع رأي آخر يشير إلى أدائه. فقد نشرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في العاشر من الشهر الماضي، استطلاعاً يشير الى أن 54% من الإسرائيليين غير راضين عن أداء شارون، مما يعني أن حكومة شارون آيلة للسقوط في مرحلة لاحقة إذا استدعت المزيد والمزيد من العنصرية السياسية المحلية والدولية وأفرطت في قتل الفلسطينيين، لأن كل أزمة سواء داخلية أو خارجية من شأنها أن توجد ردود فعل محلية تشكل عاملاً مهماً في تغيير الوجهة الاستراتيجية لأي دولة. 3% من الجمهور الإسرائيلي نفد صبره منذ الاستطلاع الذي صدر في العاشر من الشهر الماضي حتى الاستطلاع الأخير الذي صدر قبل أيام إزاء طريقة شارون في دفة الحكم، وبالتأكيد سيصعد هذا المعدل بل سيتكاثر مع تفاقم حدة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وكثرة الادعاءات الإسرائيلية في حل المعضلة الأمنية وجلب الأمن للإسرائيليين. ولكن حتى لو اطيحت حكومة شارون في المستقبل، أو تقدم موعد الانتخابات الحكومية، فهذا يعني أن الحكومة الجديدة ستتشكل بين سوداوية الحزب الحاكم "الليكود" ورمادية اليسار "حزب العمال"، أي أن الحديث عن السلام سيبقى صيغة شكلية لا تتوافر لها أية مقومات لأرضية خصبة تتطلع نحو أفق إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويأتي الاستطلاع الأوروبي المدوي الذي أحدث صدمة في المجتمع الإسرائيلي وتأثيره على مكانة إسرائيل وشعورها بالهزيمة المعنوية، بدأت استطلاعات الرأي الإسرائيلية تعبر عن جلد الذات الإسرائيلية، وتجلى ذلك في استطلاع للرأي صادر عن معهد "داحف" و"يديعوت أحرونوت" قبل أيام قليلة، ويتميز هذا الاستطلاع بمكاشفة الحالة المتردية التي تعيشها إسرائيل من ترهل قيمي وأخلاقي. فقد أشار 91% من الإسرائيليين الى أن المستوى الأخلاقي في إسرائيل بين متوسط ومنخفض جداً، فيما أعرب 50% عن اعتقادهم بأنه طرأ في السنة الأخيرة تراجع في المستوى الأخلاقي، مقابل 5% يعتقدون أنه طرأ تحسن. الأخطر مما جاء في الاستطلاع وقفز على الصعيد الأخلاقي، أن الجمهور الإسرائيلي وعلى غرار الاستطلاع الأوروبي الذي يعتبر إسرائيل خطراً يهدد السلام العالمي بنسبة 59%، فإن الجمهور الإسرائيلي على اختلاف تلاوينه وأطيافه السياسية، يعتبر ولو بالحد الأدنى أن إسرائيل تهدد السلام العالمي، حيث إنها تتراوح بين 23% من اليسار يرون في إسرائيل تهديداً للسلام العالمي، وبين الوسط 19%، واليمين 17%، بمتوسط بلغ 21% لإسرائيل وحليفتها الولاياتالمتحدة. إسرائيل في ظل هذه المعمعة التي تدور من حولها وتعمل على تآكلها، سواء على الصعيد الحكومي الرسمي، أم على الصعيد الأخلاقي والاقتصادي والمجتمعي غير الرسمي، تحاول الحديث عن السلام مع الفلسطينيين بدون جداول زمنية وبدون أي أرضية متفق عليها، فقط سلام بصيغة شكلية، من أجل الخروج من المأزق الإسرائيلي، كما أن إسرائيل حالياً توظف كل عنصريتها وقوتها من أجل قتل الفلسطينيين كإجراء عقابي يدفع فاتورته الدم الفلسطيني على حساب التوحد الإسرائيلي في الداخل والخارج، وتقوم بتسويق هجمة إعلامية مغرضة تدعي فيها أن الشعب الفلسطيني "إرهابي"، كما مثيلاتها من المحاولات الإسرائيلية المتكررة لوصم القيادة والشعب الفلسطيني ب"الإرهاب"، واعتباره غير معني بالسلام. لمجرد أن استطلاعاً للرأي صادر عن معهد إسرائيلي يقدم نسبة ضئيلة عن موقف الجمهور الإسرائيلي من دولته واعتباره لها أنها تهدد السلام العالمي، فهذا يعني أن إسرائيل كدولة وشعب غير مهيأة للسلام، أو بالأحرى غير معنية بكل ما يشير إلى السلام، وهكذا ستبقى إسرائيل بحكومتها العنصرية غارقة حتى أذنيها في عصرها الظلامي الذي تعيشه، ما لم تتغير عقولها ويتغير خطابها وتتغير سياستها.