«ابن باز» واستشراف المستقبل الحقوقي أعود بكم إلى جمادى الأولى من عام 1397 ه حين بعث أحد طلبة العلم سؤاله للشيخ عبدالعزيز بن باز يستفسر فيه عن: «حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها هل يكفر بذلك أو يفسق؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟». قد لا يثير هذا السؤال كثير استغراب لدى القارئ، ولا لدى عامة مشايخ ذلك الجيل الذي ورد فيه؛ حيث كانت خلفية الحكم الشرعي هي «الحُرمة» تجاه العمل -وليس مجرد الدراسة والتدريس- بالقوانين الوضعية المشابهة للدول الغربية مقرَّرةٌ ومنثورة في فتاويهم، وبين أسطر رسائلهم مثل رسالة «تحكيم القوانين لمحمد بن إبراهيم». لكن الغريب أن يسأل عن حكم الصلاة خلف طلاب (المعهد العالي للقضاء بقسم السياسة الشرعية). فشرع الشيخ في تقعيد مسألة التحاكم لغير الكتاب والسنة، وأن ما يدرسه هؤلاء الطلاب -وهم قضاة- وتدريسه من العلماء الأكاديميين ما هو إلا لمعرفة حقيقة هذه القوانين وبيان فضل أحكام الشريعة عليها، ولا مانع من الاستفادة منها في تنظيم أمور الناس فيما لا يخالف الشريعة، فيكون حكمهم كحكم من درس الربا وأنواع الخمر والقمار والعقائد الفاسدة؛ ليفيد غيره عن مضارّها. وبعدها أخذ ابن باز في الدفاع عنهم وأنهم مأجورون في ذلك، وشدّد في عبارته قائلاً: «يتضح لفضيلتكم أن القدح في إمامة الطلبة المذكورين والحكم بعدم الصلاة خلفهم أمرٌ لا تقرّه الشريعة، ولا يقرّه أهل العلم، وليس له أصل يرجع إليه) الفتاوى 2/325. نحن بحاجة للعالم الشرعي الذي لا يقل جهده إن لم يُحِط بأصول القانون ألّا يُحاربه لقد خفي على السائل وعلى كثير ممن مازالوا في عراكٍ وهميٍ مع الأنظمة «القانون»، وحالة توجُّس ٍ من دراستها أو تدريسها أن مجالات تطبيق القانون ومعرفة الحقوق من أسلحة الوقت الراهن، خاصة أن النظام في السعودية شرعي الأصل وفق راجح أقوال الفقهاء في الجملة، فلا أسهلَ من معرفة مبادئ الأنظمة ونظرياتها وطرق المرافعات ومفردات إنشاء الحقوق وأنواع الالتزامات، وتعزيز أهمية الاستشارات القانونية؛ لعامة المواطنين والمقيمين في مجالات حياتهم اليومية، وبنفس درجة الأهمية في الطرح الدعوي وصور الاحتساب فهي أيضا في مسيس الحاجة إلى تنويرها في مجال الأنظمة؛ لتكون اللغة العصرية لمن لم يكتفِ بالمناصحة -إذا عاد- هي الإجراء والإسناد القانوني؛ فإن الله يمنع بالسلطان ما لا يمنع بالقرآن. نحن بحاجة للعالم الشرعي الذي لا يقل جهده إن لم يُحِط بأصول القانون ألّا يُحاربه وَفق مسوغاتٍ هُلامية غير موجودة في الواقع؛ لأن رجوع مستوى الثقافة الحقوقية وتدني مؤشرها لدى الفرد السعودي يجعله عرضةً لألوان من الظلم، وصيداً سهلاً لكثير من صور الانتهاكات. رحم الله الشيخ عبدالعزيز بن باز فقد كانت هذه الفتوى استشرافاً مؤصلاً للعالم الشرعي في وقت مبكر.