عادة ما تثير القضايا المتعلقة بالمرأة جدلًا في العالم العربي والإسلامي؛ نظرًا للموروث التراثي والفكري الذي صاحب المجتمع لعقود، بل لمئات من السنين، وفي هذا الصدد تثور قضية تولي المرأة مناصب إفتائية.. فهل هناك مانع شرعي من تولي المرأة منصب الإفتاء؟ وهل منصب الإفتاء من مناصب الولاية كالقضاء الذي يرى الجمهور بعدم تولي المرأة له؟ ولماذا يرفض البعض هذه الفكرة وما دوافعهم في هذا الرفض؟ في ذات الوقت.. ما مبررات من يدعون لتولي المرأة لهذا المنصب؟ وهل هناك فعلًا حاجة ملحة لها؟ (الرسالة) استطلعت آراء عدد من المشايخ والدعاة والباحثين في هذه القضية من خلال التحقيق التالي: بداية يؤكّد الباحث الشرعي والمهتم بشؤون الأسرة الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشمالي، أنّ تصدر المرأة للإفتاء من الأمور التي نحتاجها في كل زمان ومكان؛ لأنّ النساء يحتجن إلى من يتعلمن منهن، وإذا كان المعلم لهن من جنسهن كان التعلم أيسر لهن، ومن تكون مؤهلة لتصدر الإفتاء لا بد أن تكون ملمة بشريعة الله وفقهها ومقاصدها، منوهًا إلى أهمية أن تكون ممن عرفت بأخلاقها ومروءتها، ولا بد من الأمانة التي تجعل المفتي حريصًا على بذل النصيحة في الفتوى والبعد عن لي أعناق النصوص عن حقيقتها، مؤكدًا أهمية التفريق بين ما تتصدره المرأة من مناصب مما يمكن تصدرها من الإفتاء أو بعض المناصب الخاصة في التعليم والإدارات النسائية مما يناسب طبيعة وخلقة المرأة، وبين ما هو من خصائص وطبيعة الرجال، وقد فصل العلماء في ذلك وتباينت آراؤهم حول توليها القضاء والولاية العظمى، ومن يتتبع النصوص الصحيحة الصريحة يرى بوضوح ما انتصر له كثير من العلماء من إبعاد المرأة عن هذه المناصب للنصوص النبوية الصريحة في ذلك كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، ملمحًا بأنّ المرجع دائمًا في الأمور الشرعية إلى أهلها من العلماء دون النظر إلى ما تتوارثه الأمم والأجيال من موروثات قد تكون مجانبة للصواب، إذ أن أمتنا الإسلامية تحتاج إلى تقوية الرموز المرجعية من أهل العلم مما يسعى الغرب الكافر إلى إسقاطهم لمحو الدين بسقوطهم. أمثلة حية وعن مدى الحاجة لتوفير المرأة المفتية التي تخفف عن المفتين شرح بعض المسائل الفقهية للنساء على غرار المرأة الطبيبة والممرضة والمعلمة، يرى الشمالي أننا في زمن تيسرت فيه سبل العلم ووسائله وأماكنه في كثير من المجتمعات، وكم نحن بحاجة إلى تعليم كثير من النساء لأمور دينهن، وهذا يستلزم وضع محاضن تربوية تعليمية مؤهلة لذلك كالكليات والمعاهد الشرعية التي تخرج لنا أجيالًا من النساء المؤهلات علميًا بالعلم الشرعي مما يمكنها من التوجيه والإفتاء لبنات جلدها من النساء، ولنشر العلم الشرعي عبر وسائل التواصل الحديثة، مشيرًا إلى أنه لا يخلو زمان ولا مكان إلاّ وتجد فيه من العالمات اللاتي ذاع صيتهن، وهناك أمثلة كثيرة ممن تأهلن للتعليم والإفتاء ونشر العلم الشرعي، مشددًا على أن مجال الإفتاء لا يلزم خروج المرأة كثيرًا من منزلها بل الوسائل الحديثة تعين على نقل كثير من الفتاوى والآراء, مؤكدًا أنّ المجتمع سيرحب بوجود المحاضن التي تهتم بالنساء في تعليمهن خصائص أمورهن إذا كان ذلك في جو من الحشمة والحياء، لا سيما وأن الذي يمنع الكثير من النساء من السؤال عن أمور دينها هو حياؤها. إفتاء المرأة جائز إجماعًا من جانبه يرى الشيخ علي المحيمد الحسيني، أنّه لا يعلم أحدا من العلماء القدامى أنّهم قد اختلفوا في ذلك إنّما الخلاف في قضاء المرأة، وقيدوا إفتاءها بأن تأمن الفتنة ونحو ذلك، أما المنع لأنّها امرأة فلا أعلم أحدًا قال ذلك؛ فالمرأة كالرجل سواء بسواء في مسألة الإفتاء فما ينبغي أن تنطبق على الرجل من شروط علمية لتأهيله للإفتاء ينبغي أن تنطبق على المرأة أن تصدرت لهذا المنصب سواء كان رسميًا أو كانت تفتي من حولها، غير أن المرأة الشابة التي تلفت الأنظار أو التي في صوتها تغنج مثير ينبغي أن تفتي بواسطة أحد من محارمها أو بواسطة الكتابة للمستفتي، مشيرًا إلى أن المرأة لها المقدرة العلمية على ذلك وهي قادرة على الفتيا، وضرب الحسيني مثالًا بأم المؤمنين الصديقة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما التي كانت تفتي المسلمين؛ فالفتوى تتعلق بالعلم الذي يحمل في الصدر بخلاف القضاء والولاية الكبرى اللذين لا يتناسبان مع طبيعة المرأة؛ لأن لها أيام حيض وأيام نفاس، وكذلك بنية المرأة ضعيفة قد ترى الدماء فيغمى عليها فلذلك منعوها من القضاء ولولا ذلك لما كان ثمة مانع، منوهًا على أن الذي عليه الفقهاء أن إفتاء المرأة جائز إجماعًا، ومن منع إنّما منع لمتعلقات لا للإفتاء ذاته، مشيرًا إلى أنه في حالة إذا كانت المرأة شابة فلا نقول لها أفتي الرجال وخوضي بينهم وهي لهم فتنة، مؤكدًا أن العالمات على مر التاريخ الإسلامي لهن باع في الفتيا والأسانيد، وقد تتلمذ على النساء كثير من العلماء منهم ابن حجر والذهبي وحتى من المتأخرين من تتلمذ على امرأة أو استجازها بالرواية عنها فالشيخة أم السعد مثلًا أخذ عنها القرآن الكريم كثير من المعاصرين، ولا أجد فارقًا بين أن يأخذ عنها القراءات أو يأخذ الفتوى بل القرآن الكريم يحتاج إلى متابعة طويلة وتكرار عليها. وحول كيفية التغلب على عائق الموروث الاجتماعي الذي أعاق تحرك المرأة في العديد من المجالات الحياتية وعلى رأسها عمل المرأة بالمجال الحقوقي والفقهي، أشار الحسيني إلى أهمية الاحتكام للقرآن الكريم والسنة المطهرة والأخذ بما فيهما، مؤكدًا أنّ القرآن الكريم حارب موانع التفكير بكل أشكالها وهي كثيرة وأبرزها الأخذ بالمعتاد وتقليد الآباء لأن ذلك يمثل عائقًا أما العقل كما قال تعالى: «وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون». لا يوجد مانع شرعي أما الاستاذ المساعد في قسم القضاء الشرعي بجامعة الجوف د. صالح خالد الشقيرات، فإنّه يرى أنّ موضوع الإفتاء يختلف عن القضاء؛ ولذلك لا يوجد مانع شرعي من تولي المرأة الإفتاء ضمن الضوابط الشرعية، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تقوم بذلك، وتتمثل هذه الضوابط في الحشمة والالتزام والحجاب وعدم الاختلاط، وقبل كل ذلك أن تكون مؤهلة للفتوى، مشيرًا إلى أن تولي المرأة منصب القضاء فيه خلاف بين العلماء، وكذلك الولاية العامة، أما الفتوى فتختلف عن ذلك، مؤكدًا على أهمية الحاجة لإيجاد المرأة المفتية التي تخفف عن المفتين شرح بعض المسائل الفقهية للنساء، موضحًا بأنّ الإسلام لم يحرم عمل المرأة ضمن الأطر الشرعية؛ ولذلك إذا تناقض العرف مع الشرع فيقدم الشرع، ولا داعي أن نبقى متعنتين فشريعتنا مرنة التعامل في غير ثوابت الدين، وعلينا أن نواكب تحديات العصر لا أن ننظر إلى الخلف وقدوتنا في ذلك الصحابة والصحابيات والسلف الصالح وكل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصحابة يستفتون أما الداعية والباحث الشرعي د. محمود المعايطه، فإنّه يؤكدّ أنّه ليس هنالك مانع شرعي في ذلك، والدليل على جوازه أن الصحابة كانوا يستفتون أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مسائل كثيرة، مهيبًا بأن يتم تخصيص دائرة إفتاء تعنى بالمرأة في المسائل التي تخص النساء، معللًا ذلك بأنّ بعض النساء تواجه احراج في طرح السؤال أو أن المفتي يتحرج في بعض الاحيان، وهنالك قضايا خاصه بالمرأة لا يطلع عليها إلاّ أمثالها، منوهًا على أنّه وفي هذا الزمان أصبح من الضروري أن تكون هناك امرأة تقدم الفتوى لأمثالها من النساء؛ فإنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأتون إلى عائشة رضي الله عنها ويستفتونها وتجيبهم، وما احوج ذلك في زماننا هذا لما استجد من أمور تخص النساء، وهذا من باب رفع الحرج والضيق والتيسير الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو من مقاصدها العظيمة، ويضيف المعايطة أن مبدأ رفع الحرج من الأمور المهمة في الدين، وكذلك المصلحة التي تتطلب في الوقت الحالي وجود نساء يفتين لبعضهن البعض، مشددًا على أهمية أن تكون المرأة على علم واطلاع ومعرفه كافية مما يؤهلها لتصدر هذه المكانة. وأشار المعايطة إلى أن عائق المورث الاجتماعي يزول بحضور الرأي الفقهي والإسلامي من عمل المرأة؛ فالإسلام رفع من مكانة المرأة لكن البعض منا يريد أن يرجعها للحالة التي كانت عليها في الجاهلية، فما دام أن عملها لا يتعارض مع دينها ومكوناتها الخاصة بها فلا مانع من ذلك مؤكدًا على أن ذلك ينطبق على جميع المجالات من تدريس وتمريض وطب وغير ذلك من العلوم ومجالات المعرفة التي تفوقت فيها المرأة على بعض الرجال في كثير من الأحيان، منوهًا على أن العادات والتقاليد هي التي تقيد من عملها وأداء واجبها تجاه دينها وأمتها، ملمحًا إلى أن هنالك من الأعمال ما يجب أن يكون حضور المرأة فيها مثل الترافع عن المرأة في الجانب الحقوقي واشراكها بالجانب الفقهي من تدريس وإفتاء. الأصل المساواة من جهته يؤكدّ نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بكلية الدراسات الإسلامية بالدوحة د. جاسر عودة، أنّ الأصل في الشريعة المساواة بين الرجال والنساء في كل المهام والواجبات الشرعية، إلاّ ما أتت النصوص على خلافه. وليس هناك نص يقيد الإفتاء في حق المرأة أبدًا، بل العكس هو الصحيح. وأضاف عودة أن عائشة كانت تُستفتى من كبار الصحابة وهو أمر أشهر من أن يستدل عليه. وأشار عودة إلى أن منصب الإفتاء العام تحديدًا يخضع للأعراف السائدة والقوانين المنظمة في كل بلد؛ فإن أجاز ذلك العرف والقانون فهو أولى وأقرب للأصول، وإلاّ فالعرف والقانون يحكمان، منوهًا على أن كثير من القضايا المتعلقة بالمرأة في العالم العربي والإسلامي ما تثير جدلًا على الساحة، وهذه كلها تحيزات ثقافية لا تلزم، وتأويلات بعيدة لأحاديث لم يكن المقصود منها التشريع الحتمي العام، وإنّما قيلت في مناسبات خاصة، منوهًا على أن الحل في مثل هذا الأمر يكمن في كفاح المرأة من أجل الحصول على حقوقها، فالقوي لا يعطي الضعيف من طيب النفس وطيبة القلب، مشيرًا إلى أن رؤيته قد تتطابق مع رؤية بعض الحركات النسوية ولكنّه يراها الحق في الواقع المعاش الذي نعيشه، مشيرًا إلى أن قضايا المرأة هي المحك الحقيقي للتجديد الإسلامي المعاصر، ذلك أنّه مجال فيه الكثير من الألغام والآراء التي لا تمثل حقيقة الإسلام رغم انتشارها واستقرارها عبر القرون في ثقافات الكثير من الشعوب الإسلامية، رغم أن النموذج النبوي على صاحبه الصلاة والسلام كان قمة في إنصاف المرأة وتكريمها. الزهيان: المرأة المفتية تخفف عن المفتين شرح بعض المسائل الفقهية للنساء وفي ذات السياق يرى الناشط بالشؤون الاجتماعية أ. عبدالرحمن الزهيان أنّ هذه الظاهرة هي ظاهرة شرعية فقهية في مجتمعاتنا؛ فأهل العلم الشرعي وأهل الفقه الإسلامي هم المخولون في البت بهكذا مسألة، لكن من الناحية القانونية فإن نظام القضاء وشروطه لا تنطبق على المرأة، مؤكدًا أن التغلب على عائق الموروث الثقافي الذي يقوض حركة المرأة تجاه كثير من القضايا، وأن الحل يكمن في إصرار المرأة على العمل وخصوصًا في الجانب الحقوقي، ولا يوجد ما يمنع شرعًا أن تدرس الفقه والعلوم الشرعية الأخرى، والجامعات السعودية مليئة بالدارسات والمتخصصات في هذه المجالات، ملمحًا بأنّه عادة ما تثير القضايا المتعلقة بالمرأة من الناحية الفقهية جدلًا في العالم العربي والإسلامي نظرًا للموروث التراثي والفكري الذي صاحب المجتمع، إضافة إلى الموروث التاريخي والاجتماعي وكذلك الاقتصادي والسياسي، معتبرًا أنّ هناك حاجة ماسة لتكون هناك امرأة مفتية تخفف عن المفتين شرح بعض المسائل الفقهية للنساء، أسوة بالطبيبات والممرضات، وهذه مسألة بحاجة إلى البحث والدراسة والتأمل بها. المزيد من الصور :