من مطبات السلوك التي لامستها رسالة التربيع والتدوير لأبي عثمان الجاحظ مطب التعبير عن الذات بطرق ملتوية. والتعبير عن الذات رغبة لدى المرء في نيل الاعتراف والتقدير، وهي رغبة مشروعة، بل ويعتبرها بعضهم محركا لكثير من النشاطات البشرية. وهي قابلة للتهذيب والتشذيب لكنها غير قابلة للاجتثاث. وتنحصر عمليات التهذيب والصقل في وسائل التعبير عن تلك الرغبة، حتى لا تصبح غاية التعبير عن الذات مبرراً للوسيلة. في قصة له بعنوان (فرحة) يصور الكاتب الروسي تشيخوف تصويراً كاريكاتوريا خارجا من رحم الواقع عينة اجتماعية تبحث لها عن موطىء قدم اجتماعي. والواقع أنه من النادر أن نقرأ لهذا الكاتب عملا سرديا فلا نجد له مثالا واقعيا. مما يعني أن الكاتب لا يحتاج إلى بذل جهد كبير للحصول على مادة لكتاباته، كما لا يحتاج القاص لاختراع شخصيات قصصه، ويكفيه أن يفتح عينيه على الحياة من حوله فيرى شخصيات القصص تحوم حوله بلحمها وشحمها، بل وتزاحمه في عبور الرصيف، ودخول المحلات والمنتديات ، لكن هذا موضوع آخر . هكذا وجد (ميتيا) جسراً يعبر فوقه إلى حيث الضوء، يدخل إلى بيت والده وهو يكاد يطير فرحا. أما لماذا كل تلك النشوة وذلك الحبور ؟ فهذا هو ما يدعو للتعجب. فقد نشرت الصحيفة خبراً مضمونه أن (ميتيا الذي كان في حالة سكر .. زلت قدمه فسقط .. فداسه حصان عابر ومرت عليه الزلاقة .. فأصيب في مؤخرة رأسه، وأخذ إلى مركز الشرطة وهو فاقد الوعي، فقام الطبيب بفحصه. واعتبرت الضربة سطحية، وأعطيت له الإسعافات الطبية، وكتبت الشرطة تقريراً عن هذا الحادث ) هذا كل ما في الأمر, أما مصدر النشوة فهو أن اسمه قد ظهر في الجريدة، وأن هذا الخبر قد انتشر في كل أنحاء روسيا ! إن ميتيا هنا لا يحفل بوسيلة الظهور بل بالظهور في حد ذاته، حتى ولو جاء ذلك الظهور على شكل فضيحة أو مصيبة . وفي الحياة اليومية يمكنك أن تقابل أكثر من (ميتيا) تتعدد الأسماء والأشخاص والرمز واحد. فقد ربط أحدهم يوما كاملا عند قرطاسية القرية ليسأل كل زبون يأتي إلى القرطاسية عما إذا كان قد قرأ الجريدة ذلك اليوم ؟ فإذا أجابه الزبون بالنفي أخذه من يده وقاده إلى حامل الجرائد ليطلعه على تحقيق صحفي كانت الجريدة قد أجرته معه حول إحدى الهوايات التي يمارسها. اختلف الزمان والمكان ووسيلة التعبير عن الذات لكن نشوة الظهور واحدة. ولم يكن نشوان، عندما رأى اسمه على صفحة الجريدة لأول مرة، أقل غبطة من بطل تشيخوف أو رجل القرطاسية. كان زملاء العمل يمازحونه طالبين منه أن يكتب قصيدة . وهم يعرفون أن بينه وبين الشعر عشر سنوات ضوئية، قال لهم مازحا: (اكتبوا) وبدأ يملي عليهم كلاما عفويا مسجوعا بسيطا بساطة نشوان نفسه . كاد نشوان يقتل الزملاء ضحكا. ثم طرأت فكرة مجنونة هي أن يبعث بما كتب إلى المحرر الثقافي بإحدى الجرائد المحلية. مضت الأيام ونسي نشوان هذا الموضوع ليفاجأ ذات يوم بمحاولته منشورة ببنط عريض في صفحة القراء. لم تسع نشوان الدنيا من الفرح، صور قصيدته عشرات الصور ووزعها على الزملاء الذين تمادوا في مزاحهم طالبين توقيعه على النسخ. في اليوم الثاني كان البريد يحمل محاولة أخرى أطرف من السابقة لقد تأكد لنشوان الآن أن الساحة الأدبية تشهد ميلاد شاعر . أنت كذلك يمكن أن تقابل نماذج مشابهة. قد تقابل الشخص الزوبعة، زوبعة من الكلمات والحركات التي لا تهدأ زوبعة مشحونة بالقش والغبار والأتربة، لديه القدرة على تفتيت وتشتيت أي حديث، فهو يتكلم بلا انقطاع، ويقاطع بلا تردد، ويرد بلا ترو. في كل عبارة من عباراته مطب، وفي كل فكرة يطرحها شرخ يتسلل منه الخطأ صخب يستجدي لفت الأنظار وتأكيد الحضور, ولسان حال صاحبه يقول: (سلطوا الأضواء حولي واسندوني كي أنط .. فإذا أسعفني النط فإني لن أحط )هذه طريقة أخرى خاطئة في التعبير عن الذات بحاجة إلى التهذيب والتشذيب حتى تبدو مقبولة من الآخرين . حب التعبير عن الذات موجود في كل إنسان. لكن بدرجات متفاوتة، وأساليب مختلفة. فالكل يحب ان يراه ويسمعه الآخرون، لا أحد يحبذ أن يبقى باهتا منطفئا وبلا لون. الكل يسعى إلى نيل التقدير والاعتراف باعتباره شكلا من أشكال الحصانة الاجتماعية. لكن وسائل التعبير عن تلك الرغبة تتفاوت من شخص إلى آخر . ويتناسب ذلك مع درجة النضج ومقدار الثقة بالنفس. الطفل الصغير يعلن عن نفسه بما يشيعه حوله من فوضى وصخب. المراهقون يحاولون لفت الأنظار بالتفحيط وأعمال العنف. بعضهم بتقليد من هم أكثر غنى ووجاهة . وبعضهم بالحصول على أرقام تليفونات أو لوحات سيارات مميزة، وآخرون بالمماحكة والجدال على طريقة خالف تعرف، أو بشطب وتغييب الآخرين. القزم يحاول لفت الأنظار بمناوشة العمالقة. الهدوء معناه الانزواء والبقاء في الظل، والانكفاء على الداخل والنسيان، لكن. كلما ارتقى الإنسان ارتقت طرقه في التعبيرعن نفسه. الفنان يعبر عن نفسه عبر الفن قصة أو قصيدة أو لوحة, والطالب بالتميز دراسيا، والرياضي بالتفوق عبر المنافسة الشريفة، والموظف بالتفاني في عمله .. وهكذا . لكن المشكلة هي أن تلك النماذج التي تعلن عن نفسها بالطرق الملتوية قد تجد لها موطىء قدم هنا وهناك وبالذات في المناخ الاجتماعي والثقافي الذي قد "يحسب الشحم فيمن شحمه ورم". ففي مثل هذه المحيطات يمكن أن تصبح الطنطنة جسرا للوصول وسلما للتسلق. وقد يقبع من يعمل بصمت في الزوايا المهملة دون أن يلتفت إليه أحد. ومثلما تختفي الأصوات المضيئة في عتمة الصمت، تختفي في عتمة الضجيج، ويختفي الورد وراء طفيليات الحديقة، كذلك يفقد اللون والأريج معناهما فوق الصخور الصماء .