استيقظت فوجدت حفيدها جالسا بجوارها فاعتدلت جالسة بوهن وقالت له بصوت مرتعش: أهو أنت؟ من أين أتيت؟ قال: كنت مع أصحابي. أعرف أصحابك جيداً وسر مع من تعرف لكي لا يغويك عن سواء السبيل من لا تعرف!!. التفتت نحوه وكأنها تراه لأول مرة وقالت: * ربما كنت تسير على الشاطئ حافي القدمين، أو قرب الساحل تغوص بقدميك في مياه البحر لتلتقط الأصداف بكف خشنة جعدتها مياه البحر المالحة وقلبت لون راحتيك وباطن قدميك إلى لون أقرب إلى البياض، وربما ترمي بشباكك في عمق يصل الماء فيه إلى ابطيك ويغطي نصف جسمك، وقد تمتطي قارباً خشبياً يتهادى على الموج بأي اتجاه، قد تسمع أزيزا مهولاً يدفعك للألتفاف حول نفسك بحثاً عنه، وقد تسمع صوتاً يقول:( تعال منيه)!!، حين يناديك ذلك الصوت من بعيد ويقول لك بأنه سوف يدلك على الطريق، أو أنه سوف يبعدك عن الخطر، لا تفعل فانه سيدخلك في متاهات من دوامات البحر المهلكة، لا تصدقه مهما بداً لك صوته حنوناً عذباً وندياً كصوت الأم الرؤم، فهو ليس أم رؤم بل هو أبو مغوي!!، ذلك الذي ينادي من يخوض في البحر بمفرده. قالت له ذلك ذات العظام النحيلة، والجلد الرقيق، أما هو فقد جلجلت ضحكته وقال: من قال لك بأنني سوف أسير على الشاطئ حافي القدمين أو أرمي بشباكي من على ظهر قارب خشبي يتهادي على صفحة الماء الزرقاء، يا جدتي لم يعد في البحر ماء ولا للبحر شواطيء!!. التفتت نحوه بعينين زائغتين، وبدأ صدغها الأجعد تغفو عليه شعيرات بيضاء نسعت من ملفعها الأسود، وأطل من فمها ناب وبقايا ضرس تآكل معظمه، قالت وهي ترتشف شفتها المتدلية وتحرك يدها النحيلة المرتعشة في الهواء: لا بحر ولا شواطيء، كيف يكون ذلك؟هل تتكلم جاداً أم مازحاً؟ قال وهو يبتسم: لا مجال للمزاح يا جدتي في مثل هذه الأمور!! قالت وعلامات الانبهار لا تزال بادية على محياها المحاصر بالسنين: هل رأيت أناساً طولهم شبر يطلون في القدر، ويظنون أنه بئر؟ قال والابتسامة لا تزال ترتسم على وجهه: لا لم أشاهد مثل هؤلاء البشر فمن هم؟ قالت: وهل سمعت طنيناً في أذنك؟ قال: لم أشاهد هؤلاء ولم أسمع بذلك الطنين!! تغيرت سحنتها وبدت على ملامحها علامات الشحوب وهي تقول: الحمد الله أنهم ما هم.. هم.. ما هم.. هم أمسكت بطرف مخدتها وجذبتها ثم وضعتها تحت رأسها، وذهبت في سبات عميق.