لا اذكر الان اسم كتاب روجيه غارودي الذي شرح في احد فصوله: كيف ان الحضارة الغربية سرقت كل الحضارات السابقة لها في التاريخ. وقد طرح هذه المقولة بشكل حماسي, واسلوب حاد, كما هي عادة روجيه غارودي في كل مؤلفاته, وفي كل مراحل تنقله الفكري, وتبدل قناعاته. ليست هناك حضارة صافية. هذا ما يقوله التاريخ الماضي والحاضر.. ذلك لان الحضارة هي (الثقافة) بمعناها الاشمل. والثقافة مشاعية بشرية, تأخذ شكل (الاواني المستطرقة) في حالات السلم والحرب على حد سواء. وأعتقد ان روجيه غارودي يعرف هذا اعمق المعرفة, ولكنه رجم الحضارة الغربية بالسرقة, لانها تنكر (تساقي) الحضارات، وتوالد بعضها من بعض, وتدعي انها وحدها التي صنعت المفاهيم والحقائق والقيم البشرية, ولها وحدها الفضل في اشاعة اضواء العلم والمعرفة على العالم. وبذلك تكون المؤهلة لقيادة العالم, بل تدخلها في شؤون اي بقعة من الارض يكون مبررا اخلاقيا, لانها هي وحدها التي تعرف الصالح للبشر الذين لا يعرفون الاهتداء الى الطريق المضيء. هل تريد دليلا على هذا؟ خذ السيدة امريكا مثلا انها تدعي بأعلى صوت: انها والدة حقوق الانسان, وحاضنة العدالة, ومرضعة الديمقراطية. اما القيم الانسانية الاخرى فهي منبعها الاصيل, وهي الحارسة لها على امتداد الارض. ليست هناك وقاحة تعادل وقاحة هذا الادعاء, انه سرقة في وضح التاريخ, لكل الجهود البشرية, ولثقافة كل الامم. ولكن من هو الذي يحكم هنا بقطع يد السارق؟ لا احد. العدالة والحرية وسائر القيم.. اهداف بشرية سعى الانسان الى بلورتها منذ فجر التاريخ, ولا يزال وقد بذلت في سبيل الوصول اليها دماء الآلاف, وامتلأت السجون بالانين. ولكل حضارة الحق في تبنيها والاقتباس منها, بل بلورتها وتطويرها, دون الحق في ادعاء انها من خلقها هي, خارجا عن فعل الحضارات الاخرى. وهنا يبدو ان (حوار الحضارات) ماهو الا خرافة بيضاء, ذلك لان السائد, قديما وحديثا, هو (صراع الحضارات) والتي تصرع هي التي لها الحق في السرقة رغم انف التاريخ.