كنت ومازلت أحد المفتونين بشعر الشاعر الكبير محمود درويش، الذي رحل عن عالمنا هذا الاسبوع، والذي كان مدرسة شعرية لها تلاميذها ومريدوها في العالم العربي، وكان نسيجاً وحده، أخذتني إليه اللغة، والعبارة المدهشة، مع عمق ووضوح كثيفين معاً، مع اتساع ثر لعالمه الشعري ثقافة وتاريخاً، ومعرفة، وكوناً كبيراً من الصور غير المألوفة وغير المتوقعة، ومن حسن حظي أنني التقيت الشاعر محمود درويش مرتين في يومين متتابعين في شهر (ابريل 1995) اثناء زيارته القاهرة للمشاركة في أمسية شعرية خصصها له المجلس الأعلى للثقافة بدعوة من الدكتور جابر عصفور. كانت مجلة القاهرة التي ترأسها الراحل الدكتور غالي شكري وقتها قد أعدت ملفاً نقدياً عن شعر محمود درويش شاركت فيه بدراسة مطولة عنوانها: "مواقيت القصيدة: جماليات الزمن النصي في شعر محمود درويش"، وحين علمت ان درويشاً ينزل بفندق النيل هيلتون بالقاهرة بادرت إلى مقابلته، اتصلت به، وتحدد الموعد العاشرة صباحاً، نزل محمود درويش من غرفته لمقابلتنا، كعادته كان أنيقاً، كان يرتدي قميصاً أزرق فاتحاً، وبنطالاً أبيض، وكان ثمة قلق في عينيه يتوارى خلف نظارته. وعلى طاولة تحفها الأزهار دار هذا الحوار الذي لم ينشر من قبل: @ لغتك الشعرية فاتنة وساحرة معاً، كيف تحول العادي إلى مدهش؟ أو الصور اليومية إلى صور رمزية كثيفة؟ - أنا كل ما أفعله في الشعر، وفي كتابة القصيدة هو أن أعمق المعنى.. أسعى لذلك في كل قصائدي، لقد اكتشفت مع قصيدتي: "مديح الظل العالي" وعلى الرغم من احتوائها لمقاطع غنائية مباشرة، أن تعميق المعنى هو ما يمكن أن يخلد القصيدة، وأن يجعل لها حضوراً زمنياً طويلاً. @ على ذكر الغنائية.. أنت من أبرز الشعراء الذين وظفوا الغنائية، وايقاعية القصيدة في شعرهم.. هل ترى أن الغنائية في الشعر نقيض الحداثة؟ - هذا ما أتهم به دائماً، بل ان بعض الشعراء يضعونني خارج الحداثة الشعرية.. من المهم أن أحدد لك بعض الأمور: أنا شاعر غنائي ورومانتيكي وحداثي، ولقد تربيت على الغنائية الشعرية العربية، لكنني أحدثت قطيعة معنوية مع هذه الغنائية من جهة تشكيل المعنى، أي انني في اتجاه تشكيل المعنى الشعري العميق لا تدفعني أو تحفزني قوالب شعرية محددة قد يجلبها الوزن الشعري، أو الموسيقى الشعرية. لكن ما أود قوله أيضاً هو أن الغنائية ليست ضد الحداثة، وكبار الشعراء في العالم من ألبرتي إلى لوركا إلى نيرودا إلى أوكتافيو باث هم شعراء غنائيون، حتى تجد ذلك في شعر الهايكو الياباني، وهو عبارة عن مقطوعات شعرية قصيرة مكثفة تجد أن أساس هذا الشعر هو أساس ايقاعي، والغنائية كما تعرف قرينة الايقاع. @ لماذا لم تكتب قصيدة النثر؟ - سؤلت هذا السؤال كثيراً وإجابتي هي أنني لا أجد نفسي فيها. - من خلال دراستي عن شعرك وجدت لك قصيدة واحدة نثرية بعنوان: "المزامير"؟ - كانت تجربة أولى وأخيرة، ولن أعود إليها. @ أنت قدمت كتابات نثرية لكنها تفيض بالشعرية مثل: ذاكرة للنسيان، هل تريد القول: ان هناك شعراً وقصيدة وهناك نثراً أدبيا؟ - بالضبط هذا ما أعنيه، لكن هذا لا ينفي أن لقصيدة النثر شعراؤها الكبار. @ استاذ محمود: كيف تنظر لواقع الشعر العربي اليوم؟ - المشهد الشعري العربي اليوم مليء بالأصوات الشعرية المتنوعة، طبعاً لا يوجد لدي الوقت الكافي لمتابعة كل ما ينشر من دواوين وقصائد. لكن ما اقرأه على الأقل يؤكد على وجود شعراء كبار حتى في قصيدة النثر. لكن أنا ضد استسهال كتابة الشعر، كما أنني ضد استسهال كتابة قصيدة النثر.. لابد في الشعر أن يتحلى بقدر من كلاسيكية الأداء، من معماره وفنيته، وصوره وأخيلته.. ولعل القراء يلحظون ذلك في قصائدي. @ لاحظت اهتمامك بالتاريخ والأرض في معظم قصائدك، مع ملحمية ظاهرة خاصة في دواوينك: مديح الظل العالي، أرى ما أريد، أحد عشر كوكباً على المشهد الأندلسي؟ كيف تفسر هذه الظاهرة؟ - أنا انطلقت شعرياً مع الأرض، ومع القضية الفلسطينية، شعري هو صورة هذه الأرض وهذه القضية، والذاكرة الفلسطينية هي جوهر الابداع الشعري عندي وأغلب صوري، ومضاميني الشعرية التي أبثها من خلال القصيدة هي نتاج هذه الذاكرة.. واعتقد أن هذا هو الأبقى شعرياً بدلاً من الانشغال بالتشكيل والتجريب والتنظير. - شكراً لك أستاذ محمود درويش. - شكراً.. شكراً