إذا كان جيل الرواد من كتاب الرواية من أمثال عبدالقدوس الأنصاري وأحمد السباعي ومحمد علي مغربي قد عملوا على وضع اللبنة الأولى لهذا الفن. فان تجربة الجيل الذي تلاه من أمثال حامد دمنهوري وابراهيم الناصر أكدت على نحو متصاعد نمو فن الرواية في أدبنا المحلي. وتجربة الناصر تجربة لها خصوصية لا يمكن لأي دارس ان يتجاوزها. فالى جانب محاولة الناصر متابعة قضايا النمو والتغير الاجتماعي في أعماله الروائية والقصصية, فانه يسجل لهذا الكاتب استمراره في تعاطي هذا الفن منذ صدور روايته الأولى حتى الآن. ان دأبه واستمراره في الكتابة السردية يجعلنا نكبر فيه اهتمامه بمسألة التراكم السردي في تجربته, التراكم السردي الذي يسجل ويرصد التغيرات النفسية والمادية على المستوى الفردي والمستوى الجمعي. ان الناصر يكرم ليس لانه روائي فحسب, بل لانه في تصوري صاحب قلم لم ينقطع عن الكتابة, وكأنه رضي من الحياة ان يرصد تحولاتها, ينظر اليها تارة بسخرية, وتارة أخرى بشفقة. وبهذا النهج يضع تقليدا مهما في الكتابة الروائية المحلية. وهو ما نلاحظه ايضا في مسيرة الروائي عبدالعزيز مشري وعبده الخال ورجاء عالم. فهؤلاء جميعا علموا ان من نجاحات الرواية, ليس على المستوى الشخصي فحسب, بل على مستوى تاريخ الرواية, هو العمل على تأسيس فضاء روائي يتسم بالغزارة والتنوع. ومن غير شك فان هذه التجارب المهمة أحدثت في النهاية طفرة روائية غير مشهودة في أدبنا المحلي في العقد الأخير من القرن العشرين او التسعينيات على وجه التحديد حيث تسارعت وتيرة الكتابة الروائية, وهو ما جعلها تنقل الممارسة الروائية من حالتها الفردية الى تيار يكتب الروائية من منطلقات مختلفة. والمفارقة ان الشعر المحلي الذي كان يجري ضمن تيارات تحدد توجهاته, بات الآن مجرد نزعات فردية. فما العلاقة بين هاتين الظاهرتين؟ لن أجيب مع يقيني ان لدى كل واحد منكم ما يقوله في هذه النقطة, لن أجيب لان المقام هنا هو تقديم لظاهرة ابراهيم الناصر الذي كان يغني منفردا في فترة كانت الرواية فيها مجرد تعليق هامشي على جدار الحياة. ان الناصر وليس ما أقول مبالغة, قد أبقى مشعل الكتابة الروائية حية ومتوهجة حتى جاء جيل السنوات القليلة الماضية من القرن العشرين ليحول الرواية من حالة الخصوص الى حالة العموم. لكن السؤال هو, هل الجيل الروائي الجديد كان وفيا مع منجز الناصر الروائي؟ ان قراءة منجز الناصر مهمة على أكثر من مستوى. المستوى الأول, هو قياس سقف الحرية الروائية, من حيث ارتفاع هذا السقف او من حيث بقائه متدنيا رغم كل هذه السنوات. ان هذا المستوى مهم في فهم آلية الكتابة الروائية, وفي فهم أجندة الموضوعات المسموح بها اجتماعيا وكيفية تناولها. بمعنى هل هناك تنام ومكتسبات بنى عليها الكتاب الجديد من داخل التجربة الروائية؟ أما المستوى الثاني فهو قياس نمط الانشغال الفكري الروائي عند الناصر خاصة في أعماله الأولى, وبين الانشغالات الفكرية للكتاب الجدد, والمستوى الثالث, هو قياس ما اذا كان هناك تطور مطرد في المستوى الفني ام ان هناك قفزات تركت فجوات عميقة يصعب ردمها وتبريرها نقديا. ومن هنا تأتي فكرة أهمية التواصل مع منجز الناصر بوصفه فضاء يمكن ان نستنبط منه اجابات مهمة عن كيفية تطور الرواية المحلية. يقف الناصر على تراث سردي ضخم بين رواية وقصة قصيرة, وهو بهذا التنوع والغزارة في الانتاج يضع تقليدا مهما للأجيال القادمة. ومن خلال استقراء نتاج الناصر السردي وبعد هذه السنوات من الكتابة الدؤوبة اعتقد ان الناصر قد سن تقاليد روائية من الصعب تجاوزها, ولعل أهم هذه التقاليد على الاطلاق هي الموضوعة التي ما لبث يتناولها من حين لآخر في أعماله الطويلة والقصيرة. تلك الموضوعة هي سؤال التغير والتحول الذي يحل بالمجتمع منذ أوائل السبعينيات الميلادية. غير ان التغير الذي تناوله في أعماله ليس تغير الأشكال المادية, بل تغير الانسان. وهو ما جعله يرصد في بعض أعماله مثل رعشة الظل. قلق ابن القرية الذي جاء الى المدينة يحمل معها كل طموحاته الريفية الساذجة, أخلص في عمله, لكنه ظل اسيرا لفكرة التابع. فقد عمل لدى أحد أعيان المدينة, لكنه لم يجد أكثر من الثناء على إخلاصه. وهو هنا يرمز الى تبعية القرية للمدينة التي تحظى بكل شيء مادي او تقني. لكن الفاجعة التي تشير اليها الرواية هي ماذا سيحدث عندما تكون الخسارة في الانسان. غير ان الناصر لم يقصر كتابته على قضية بعينها, فرواياته (سفينة الضياع وغيداء المنفى وخريف الغضب ودم البراءة) وغيرها حافلة بطيف عريض من القضايا, التي قد لا تكون بارزة في عمل بعينه لكنها كانت من ضمن الانشغالات الفكرية للكاتب. ورواياته المختلفة في ترتيبها الزمني والمختلفة في تطورها الفني تحفل بقضايا فلسفية واجتماعية متعددة منها, قضية البحث عن المثل العليا, وقضايا المرأة من حيث حقها في التعليم, ومن حيث حقها في الاختيار وإبداء الرأي. وسنقف أمام رواية غيوم الخريف التي صدرت عن نادي القصة بجمعية الثقافة والفنون بالرياض في عام 1988 بوصفها نموذجا لتجربة الناصر السردية. تأتي هذه الرواية لتؤكد المنحى الذي سعى الناصر لتناوله في معظم أعماله الأخرى. ففي هذه الرواية يرصد التغير النفسي والمادي لشخصية محيسن الذي انتقل من الفقر الى عالم الطفرة الذي وجد فيه فرصة مثل غيره للثراء السريع من خلال تجارة العقار. كما ترصد الرواية معالم النمو عبر تقديم الماضي من خلال لوحات ارتدادية تفسر في المقابل مظاهر الثراء والركض وراء الصفقات التجارية التي يلاحقها محيسن مع صديقه سلمان. لقد كشفت الرواية عن عقم الوعي لدى إنسان تلك المرحلة حيث يبدو مستلبا وغير قادر على الموازنة بين احتياجاته المادية والروحية. فمن خلال حبكة يسيرة تكشف الرواية ان الطفرة كانت طفرة مادية مجردة من نمو وعي اجتماعي يعطي توازنا يحفظ المجتمع من السقوط في الفوضى. ان أول تجربة يواجهها محيسن باعتباره ممثلا لهذا المجتمع يسقط بسذاجة تمثل سذاجة المجتمع الذي جاء منه. فبعد ان اغتنى من تجارة العقار التي لم يبذل فيها أي جهد سوى السمسرة فانه يقرر ان يستثمر أمواله في تجارة أخرى. يذهب الى الغرب حيث يغرق في ملذات المجتمع المادية. يعقد صفقة يتضح فيما بعد ان الشركة التي أبرم معها عقد توريد معدات لبناء مصنع للعصائر في دبي موضوعة على القائمة السوداء التي تحظر على الشركات التي تتعامل مع العدو الإسرائيلي دخول العالم العربي. حينها يفقد محيسن جل ثروته ليكتشف وعيه الزائف. ان الرواية تقدم محيسن بوصفه نموذجا لحركة المجتمع من الوداعة الى الصخب, ومن الفقر الى الثراء. والرواية وهي تدين مجتمع الطفرة, فانها تؤكد نقاء مجتمع ما قبل الطفرة. وهي رؤية تقوم على تبجيل الماضي والنظر بحنين مطلق للماضي. ولذلك يصبح الماضي هو النموذج الذي ننشده للخلاص من ويلات الزمن المادي الذي أعطت الرواية العديد من الإشارات الخاطفة على تغلغل تأثيره السلبي في كل مظاهر الحياة. اننا بشيء من التجاوز يمكن ان نعتبر الرواية خطابا ينعى المجتمع الذي بدا متهالكا غارقا حينا في الخرافة, وأحيانا في ملذات مادية صاخبة. ان المجتمع الذي صورته الرواية مجتمع غني لكنه غير واع, مجتمع مفرط في التقدم المادي غير انه عاجز عن بناء الإنسان. يظهر في ثنايا الرواية مقارنة بين المرأة والرجل في مجتمع الطفرة. فالرجل الذي بدا حر الحركة غير مقيد, بل غارقا في ملذاته وشهواته خاصة عندما يكون في الغرب, فإن المرأة لا تملك الحصول على أبسط حقوقها. فهذا محيسن وسلمان وخالد, ثلاثة من شباب الوطن تجمعهم مصالح متباينة يغرقون في لذة صاخبة كنموذج للرجل في سياق اجتماعي غذته ماديات الحياة. وفي المقابل تظهر زوجة محيسن تلاحقه من بلد لآخر بالهاتف تسأل عنه حينا, وتبلغه بمرض ابنتهما. لقد جسدت الرواية غياب المرأة في هذا الصخب الاجتماعي وتقوقعها في بيتها تبحث عن الرجل الحاضر في أتون التحولات الاجتماعية, لكنه غائب عنها ومغيب لها بالتالي. فان المرأة/ الزوجة في الرواية متعلقة بالوهم والخرافة, بينما الرجل/ الزوج مندفع في تحقيق ذاته. وبين الحضور والغياب حضور طاغ للرجل وغياب مفضوح للمرأة, يوضح الخلل في تركيبة المجتمع النفسية, فهو مجتمع, كما توحي به الرواية معطل لا يمكن ان يكون مدنيا ومتحضرا, ولا يمكن في الوقت ذاته ان يبقى ريفيا رعويا بدائيا. إنما هو في نهاية المطاف مجتمع هجين, متناقض في أعماقه, حب المدينة في المظهر الخارجي, لكنه يبطن قدرا من الجمود وعدم الرغبة في تغيير عادات وسلوك لا تتسق والواقع الخارجي للحياة. ان حبكة الرواية محدودة الإطار دقيقة المحتوى. فالرواية أقرب في بنيتها الى قصة طويلة من حيث تركيزها على زاوية قص واحد وشخصية واحدة ومحاولة ربط سياقها الحاضر بسياقها التاريخي. لقد ارتكزت زاوية القص على رؤية متحيزة ضد ممارسة الفئة المستفيدة من الطفرة. فطوباوية العقاب التي ساقنا النص اليهاب لم تنل إلا محيسن الذي شغله البحث عن المال عن أحب الناس اليه. ابنته. أما سلمان وكذلك خالد فان النص غض الطرف عن ممارستهما وتصرفهما غير المسؤول. ان محاولة الرواية بلورة القضية كسبب ونتيجة حدت من حضورها وقوة تأثيرها. فمسعي محيسن كان واضحا انه سيصل الى نتيجة مؤلمة. أي ان النص عجل بافتراض نهاية محسين, فأوجد حالة من الحدس لدى المتلقي بمصير محيسن. في هذا العمل كما في معظم أعمال ابراهيم الناصر يظهر قلق المبدع وبحثه عن صيغة للتعبير عن إبداعه. ان الناصر وقد نذر نفسه للتعبير عن قطاع عريض من القضايا وعلى رأسها قضية التغير الاجتماعي من خلال تركيزه على استلاب الفرد وضياعه في أتون التحولات الاجتماعية, بالاضافة الى مواصلته رحلة الكتابة منذ العام 1960م فانه يوجد بذلك أكثر من سبب للاحتفاء به وتكريمه.