هل تجاهلت الرواية السعودية مجتمعها الذي انبثقت منه، وانصرفت إلى الذات والسيرة الذاتية، وهل مطلوب من الرواية أن تتحدّث عن المجتمع وتحلّ قضاياه، أم هي عملٌ فنيٌ بامتياز ليس من مسئوليتها كُلّ هذا، ثم إنَّ ثنائية القرية/ المدينة قدْ أثّرت في عمل روائيين كثر هنا، وهل هم ينسون أنفسهم في ثنايا الأسطر ليتحدثوا عن هذه الثنائية؟. وكأنّها هي كل الأدب، بل هي كل الرواية! يقول الروائي طاهر الزهراني: الأدب حالة إنسانية، تتحدث عن قضايا الإنسان الكبرى، عن قلقه وحبه، واحتجاجه، وأسئلته التي لا تنتهي، والإنسان بطبيعته كائن يسعى للألفة، وهذه لا تكون إلا من خلال التماس المباشر مع المجتمع، والرواية لا تعزل هذا الشيء أبداً إذ ان الرواية هي ابنة المدينة، هذا غيّر تأثير بعض المدارس الأدبية التي تنطلق من منطلقات اجتماعية، لهذا نجد الرواية تنطلق من الذات والمجتمع بشكل متوازٍ، وبالتالي هناك روايات كثيرة على المستوى المحلي تعرضت للحديث عن المجتمع ومشكلاته، عرضاً وتشريحاً، وهذا أيضاً من مهام الروائي، والتي قد يمارسها الكاتب دون وعي أو قصد...مشيراً إلا أن الرواية لا تقدم حلولاً أو مقترحات لعلاج المشكلات، لأن هذه مهمة أهل الاختصاص والشأن، وقد تكون الرواية ذات منحى سياسي أو اقتصادي، أو لها توجه ديني بحت، إذا أنها ليست رواية بالمعنى الفني، وإنما استخدمت كقالب لترويج هذه الأفكار والأطروحات، وغالباً ما يطال هذه الروايات الضعف في الشكل والمضمون؛ لأن الرواية إذا كُتبت من أجل تكريس فكرة ما، والروائي الذكي قد يمرر أفكاره والرؤى إذا كتب بفن... مؤكداً بأن هناك العديد من الروايات المحلية اشتغلت وعزفت على الجانب الاجتماعي، منها روايات عبده خال "فسوق"، وكذلك "نباح" وكانت ذات منحى سياسي لدرجة الصراخ أو "النباح السياسي" إن صحت التسمية، و"ترمي بشرر" والتي تعرضت لأخلاق المجتمع، وأثر الاقتصاد في ذلك، وروايات محمد المزيني منها "عرق بلدي" و "إكليل الخلاص" والتي تعرضت للجانب الأخلاقي تحديداً، وبعض ما يمارس في الخفاء في مدينة تدعي الفضيلة، ويحضرني أيضاً رواية "شارع العطايف" لعبدالله بن بخيت التي توغلت في المجتمع النجدي بعمق، وذكر فيها ابن بخيت تفاصيل دقيقة ومرعبة، ولن ننسى شخصية "شنغافة" والتي هي من صميم المجتمع ولقد أرهقه ابن بخيت في هذه الرواية حد الشفقة، رواية جيدة رغم الهنات الفنية في العمل.... ومن الأمثلة أيضاً التي ذكرها الزهراني رواية "ابن طراق" لبدر ومحمد السماري، وقد كانت تتحدث عن المجتمع وأثر الترف على عائلة، وإسهام ذلك في العداوات والقطيعة، وإخراج الجانب البائس في الإنسان....أما ثنائية القرية والمدينة، فبلاشكٍ أن هناك العديد من كتاب الرواية اشتغلوا على هذه الثنائية بشكل واضح، مع تناول ناضج ومنصف، ونجد هذا في معظم أعمالهم ومنهم: عبدالعزيز مشري رحمه الله، وعواض شاهر، وأحمد أبو دهمان، النماذج عديدة للغاية، وأرى أن الرواية المحلية هي رواية اجتماعية بامتياز، وربما قد تأثرت بالمدرسة المصرية في هذا، إلا أن التعرض لثنائية القرية والمدينة كتبت بنضج ووعي، والسبب في نظري كوننا حديثي عهد بالمدن... أحمد قرّان: الرواية السعودية اهتمت بالمنولوج الذاتي إضافة إلى القضايا الاجتماعية أما الباحث والشاعر د. أحمد قران فيذكر أن الرواية في بنيتها السردية تعتمد على تفاصيل الأحداث الكبيرة والصغيرة وتسليط الضوء على تلك الأحداث من خلال رؤية الروائي وليس من خلال رؤية المجتمع، لهذا نجد الروائي يمزج الواقع بالخيال رغبة منه في إحداث اهتزازات اجتماعية تقود المجتمع من هذا الواقع إلى ما طرحه الروائي من خيال... معتبراً بأن الرواية السعودية لم تهتهم فقط بالمنولوج بل تناولت قضايا اجتماعية وسياسية لم تستطع كافة الأشكال الكتابية تناولها، وهو ما يحسب للرواية السعودية، حيث تكلمت عن المسكوت والممنوع بكل أشكاله، نحن نتطلع إلى تناول قضايا أكثر لكن الرواية السعودية استطاعت فعلا أن تتناول القضايا الاجتماعية والسياسية القديمة منها والمعاصرة، كما تناولت القرية والمدينة بذات الزخم الذي تناولت به القضايا الأخرى وقد أتفق معك أن هناك تفاوتا بين الروائيين في تناول القرية والمدينة، وقد أتفق معك أن هناك تفاصيل في القرية لم تصل إليها رؤية الروائي وتحتاج إلى جهد ومعايشة حتى تصل إلى أدق التفاصيل والتي ربما تضيف بعدا إنسانيا على الرواية....ويضيف الشاعر قرّان معللا عدم ترجمة ذلك إلى أعمال فنية: لا نرى هذا الزخم في أعمال تلفزيونية لأن الامر يحتاج مجموعة من العوامل والإمكانيات لعل من أهمها كاتب سيناريو محترفا ومتمرسا بعيدا عن نمطية المسلسلات العادية كما نحتاج إلى شركات إنتاجية كبيرة تؤمن بالعمل الإبداعي أكثر من إيمانها بالماديات وأهم من ذلك كله وجود سينما لعرض الأفلام المستوحاة من تلك الروايات وكل هذه العوامل السابقة ليست متوفرة نهائيا مما يعني أن الرواية ستظل مكتوبة ولن تكون مرئية... طاهر الزهراني: الروايات المحلية تناولت جوانب مختلفة مثل الجانب الاجتماعي كما وينحو الروائي خالد المرضي منحى آخر حيث يقول: في البدء يجب أن نعرف أن الرواية كجنس أدبي لا تقوم في علاقتها بالمجتمع على أساس من المحاكاة أو تقديم المجتمع كما هو بصورة مرآة عاكسة، بل هي وسيلة لإعادة رسم الواقع بطريقتها الخاصة، إذ ان المبدع حين يتناول قضية اجتماعية فإنه يقوم بالتعبير عبر وسيط اللغة عن رؤيته هو تجاه مجتمعه، إذ من المعروف أن الكاتب هو ابن بيئته ومجتمعه كما يقال، وهنا تختلف عملية تناول المجتمع وتتباين من كاتب إلى آخر، وفقا لثقافة الكاتب وبيئته المحيطة ودوافعه نحو الكتابة وأمور أخرى تؤثر في تعاطيه مع ما يكتب... مؤكداً أنه حينما يتناول كاتب ما واقعه وينقله إلى النص فانه ليس الواقع المعاش كما هو بالتأكيد، بل هو تلك الرؤية التي قدمها، تلك التي يعبر عنها عبر مخيلته لتخرج كحياة أخرى داخل النص موازية لتلك التي في الواقع الحقيقي، هذا إذا علمنا أيضا أن المجتمع في سيرورة غير ثابته، يتغير ويتبدل باستمرار خصوصا في عقوده الأخيرة التي شهدت ثورة في عالم التواصل والاتصال ... وبالعودة الى الكتابة الروائية يذكر المرضي أننا نجد أنها الجنس الأقدر على تناول قضايا المجتمع، كونها الجنس الادبي الذي يستطيع أن يخلق حياته المتكاملة، سواء من ناحية شخوصها أو موضوعاتها أو حضور زمانها ومكانها، أي أنها قادرة على استيعاب مجتمع ما بكل تشابك نسيجه الثقافي والاقتصادي والديني والسياسي... مختتماً حديثه بأن الرواية السعودية لم تخرج عن هذا السياق، وهنا أقصد الرواية التي حققت أدنى شروط العمل الروائي كعمل إبداعي يعي ما يتناول، أي الرواية التي كتبت بخبرة حياتيه وقرائية لكاتبها، ففي تلك الروايات يمكن القول إنها تفاعلت مع مجتمعها بحسب المرتكز الذي قامت عليه كل رواية، أي ماذا تود ان تقول ؟ فالقرية حضرت في كتابات عبد العزيز مشري بكثافة، فقد رصدت رواياته حال المجتمع القروي في منطقة الجنوب في فترة تحول مهمة، تلك التي أعقبت الطفرة الاقتصادية التي اثرت على نسيج القرية الاجتماعي وتسببت في خلق هجرة نحو المدن، لتتخلى القرية عن أهم عناصر بقائها، أي إنتاجها الزراعي الذي كان يوحد ويربط علاقة مجتمعها، بالإضافة إلى روايات أخرى تناولت مجتمع القرية وإن كان بصورة مختلفة، كما نجد ذلك عند رواية ساق الغراب ليحيى امقاسم في فكرة الاستلاب أو ما نجده أيضا عند رواية شرقيين في جنوب الجزيرة للشدوي التي تناولت الجانب الديني الذي تغير نتيجة افكار جديدة قادمة من بيئة مغايرة وهكذا.... أما عن حضور المدينة في الرواية السعودية فيذكر المرضي بأن حضورها الاجتماعي كان في عدة عناصر عدة منها السياسي كما في ثلاثية تركي الحمد، أو كما في رواية مدن الدخان لدى الدويحي، أو في رواية نباح لعبده خال برؤى مختلفة رصدت حال المجتمع نتيجة أحداث سياسية معينة، أو تلك الروايات التي قاربت المجتمع فيما يخص قضايا المرأة أو الهوية وهي كثيرة؛ لكن يبقى أن نقول ان الرواية يجب أن تقرأ وفق اشتراطاتها هي، أي أنها عمل متخيل يبنى في ذهن مبدعه، أي أن رؤية المبدع لواقعه لا تعني الواقع ذاته كما هو، بل محاولة لقراءة ذلك الواقع من داخله، فالأدب في عمومه ليس سوى محاولة لمقاربة الواقع بعد تشذيبه وتحديد زاوية النظر إليه التي قد تبصر اشياء وقد تعمى عن أشياء كثيرة.... مختتماً حديثه بأنه يبقى أن الرواية السعودية حظيت بمحاولات جادة لقراءة مجتمعها، قلّت أو كثرت، سواء في القرية أو المدينة، اما ان كانت تلك الروايات قد انصفته أم لا، فالمسألة هنا تسائل الفن، والفن لا يقدم حلولا لمجتمعاته، بل يحاول أن يجعلها حرّة، يقدر فيها الفرد ذاته وينحو بها نحو الرقي والسمو والتحليق. سامي جريدي: ليس كل رواية تتناول القضية الاجتماعية هي رواية اجتماعية كما يذكر الناقد سامي الجريدي بأن من يتأمل الرواية السعودية عبر رحلتها التاريخية القصيرة سيلاحظ التعدد في تناول المواضيع، والقضايا، والخطابات. وسيجد مع هذا كله هيمنةً للجوانب الاجتماعية على كثير من عوالمها وقضاياها، وهذا يعتبر أمراً طبيعياً لنمو الرواية في فترة لم تكن هناك رواية سعودية. والمسألة في رؤيتها السردية أراها تختلط على كثيرين في مفهومها المتعلق بالتحديد ما بين أمرين: الأمر الأول: أن هناك روايات سعودية تناولت قضايا اجتماعية. الأمر الثاني: أن هناك ما يُسمى بالرواية الاجتماعية؛ أي متصفة بهذا الاتجاه وتقوده لغة وخطاباً كلياً. لقد ظهرت الرواية السعودية أكثر التصاقاً بالواقع، وبالوصف الكلي للظواهر الحياتية، وبالتحولات الاجتماعية، وبالتعليم، وبالتمدن، وبمسألة الانتقال من ثقافة القرية إلى ثقافة المدينة، وفي رصد هذه التحولات التي كانت نتيجة لصدمة حضارية اقتصادية قفزت بالمجتمع من وضع إلى وضع آخر مختلف تماماً. وهذا الأمر يمكن ملاحظته في روايات عدة، منها على سبيل التمثيل لا الحصر روايات: إبراهيم الناصر الحميدان، قماشة العليان، عبدالعزيز مشري، وغازي القصيبي، وعبده خال، أحمد أبودهمان وغيرهم. ولهذا لا أرى أن الرواية السعودية قد تجاهلت التناول الاجتماعي في مواضيعها، فقد تناولت بعض الروايات على سبيل المثال: قضايا الزواج والعنوسة والطلاق والزواج من الرجل المسن والإجهاض وغيرها. كما أن بعض الروايات تناولت قضايا وقوع الشباب في المخدرات ومرض الأيدز وأزمة البطالة وأزمة نقل المعلمات عبر باصات إلى المدارس في المناطق النائية. وفي السنوات الأخيرة برزت روايات تعالج قضايا اجتماعية أخرى متعلقة ب(العنصرية) وهي قضية أخذت بطولته بعض الروايات مثل: رواية جاهلية لليلى الجهني وتناولتها أيضاً روايات محمود تراوري وعبده خال. والعنصرية تصعد بمفهومها الاجتماعي إلى أعلى، لتصبح قضيتها أكبر من أسرها في الاجتماعي لتلج إلى المعرفي والإيديولوجي، وهو أمر تتقاطع معه مسألة (الهوية)، القضية الأعمق في تناول الذات من خلال وجودها في المجتمع، وهو الأمر الذي تبحث فيه الشخصيات اللامنتمية إلى المكان عن حقيقتها بين الناس، ولهذا أزمتها لم تكن مع المكان بقدر ما هي أزمة مع التفكير السلبي الذي يحمله هؤلاء البشر. أما وجود الرواية النفسية فلا يمكن اعتباره إلغاء للاجتماعي أو لغيره من الموضوعات السردية الأخرى، لكنها قليلة التناول، فمن الروايات التي تتصف بهذا النوع كسبيل التمثيل رواية (ومات خوفي) لظافرة المسلول. ويختلف استخدام تكنيك تيار الوعي عن الرواية النفسية، وهو ما فرّق بينهما الناقد (روبرت همفري) في كتابه تيار الوعي في الرواية، يقول: "ويختلف قصص تيار الوعي عن كل القصص السيكولوجي في أنه يهتم بالمستويات غير الكاملة أكثر مما يهتم بمستويات التعبير الذهني، وهي المستويات التي تقع على هامش الانتباه". ولهذا أستطيع القول إن الرواية السعودية وان استخدمت تكنيك تيار الوعي فهو لغرض تبحث فيه الشخصيات عن مأواها الاجتماعي والفلسفي والرمزي، لا النفسي المحض، وإن ظهر ذلك، فالشخصيات المهمشة والمصابة بأزمة نفسية حادة هي التي تبحث عن ذاتها من خلال المونولوج الداخلي، والحوار الذاتي، وحديث النفس والمناجاة، والتذكر، والاسترجاع. وما يرتبط بذلك من تداعٍ حر، وتفتيت للمشاهد وللأحداث، وتوظيف للغة الأحلام وللغة الشعرية، وتداخل الزمن وذوبانه، وتشظي الشخصيات، وهذه الأمور كلها هي بمثابة الهروب من جو العالم الخارجي إلى العالم الداخلي، هروب من الاجتماعي إلى النفسي، هروب إلى حقيقة الذات، وهذا الهروب هو تفسير آخر للخلاص. وهكذا نختلف على الرواية، هل هي وليدة المجتمع ويجب أنْ تتناول قضاياه، أم انّ العمل الروائي يجب أنْ ينأى بنفسه عن تصوير المجتمع، فهذه ليست مشكلة الروائي الذي بالطبع ليس طبيبا نفسيا ولا مشرعا ولا قاضيا، والرواية وإنْ كانت ابنة المدينة؛ إلاّ انها لم تنسَ القرية أبدا، كيف لا وروائيونا نشأ معظمهم في القرية، فاختلطت بدمه قبل أنْ يعرف المدينة. لكنّ السؤال الذي لم يجب عليه أحد هو هل أصبح لنا روايتنا التي يُشارُ إليها بالبنان وتشبهنا أم لا زلنا في مرحلة إرهاصات الرواية، سوف أستضيف الأخوة النقاد ليسطروا لنا كلاماً سيختلف بالطبع عن ما قاله الروائيون هنا.