ظهرت حرفة النجارة منذ فترات موغلة في القدم وارتبطت بوجود الناس على وجه الخليقة عندما بدأ الإنسان الأول في صنع مقابض يدوية للفؤوس الحجرية في العصر الحجري للاستعانة بها في مختلف شئون حياته وبتطور الزراعة بدأت تتوفر لديه أخشاب مختلفة من جذوع الأشجار, فتحت له آفاقا جديدة حيث هجر الكهوف إلى المساكن البسيطة التي صنعها بجذوع الأشجار وفي مراحل متطورة بدأت التجمعات السكنية في الظهور والتي تأكدت معها الحاجة لحرف وصناعات أساسية كالبناء والنجارة والحدادة كأهم الحرف التي ساهمت في تحقيق أهداف ومتطلبات غنية عن التعريف كذلك تأكدت الحاجة لوجود أفراد يمتهنون تلك الحرف فكان النجار والحداد والبناء وهكذا ويكفي مهنة النجارة شرفا أنها كانت مهنة سيدنا نوح عليه السلام. وبمرور الزمن أخذت حرفة النجارة أبعادا ووظائف متعددة كصناعة الأواني الخشبية وغيرها وبازدياد وعي الإنسان بدأ يدرك الأبعاد الفنية والجمالية التي أضافها بتشكيلات فنية بسيطة إلى مشغولاته الخشبية وتشهد خزائن المتاحف على الشواهد الحية للإبداع الإنساني عبر مختلف العصور والحضارات مبينة الخصائص والسمات الفنية والجمالية لشتى الشعوب والأمم السالفة. وتأتي المنطقة الشرقية بمدنها التاريخية (الأحساء والقطيف) التي احتلت فيها الزراعة مكانة مرموقة شكلت الرافد الأساسي في وفرة الأخشاب لحرفتي القلافة (صناعة السفن) والنجارة والتي ازدهرت صناعتها جيلا بعد جيل. (الأخشاب المحلية تعتبر الأحساء والقطيف من أهم المدن الزراعية في شرق شبه الجزيرة العربية والتي اشتهرت منذ القدم بأنواع مختلفة من الأشجار المثمرة وغير المثمرة كأشجار (النخيل و (السدر و (الإثل و (التر نج و (الزعرور و (القضب و (الجرنزال ومعظمها من الأشجار المباركة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم قال تعالى في سورة الرحمن (فيها فاكهة ونخل ورمان الرحمن آية 68. لقد وظف الحرفي تلك الأشجار بأشكال مختلفة مراعيا في ذلك التركيبة الداخلية للشجرة من حيث اتجاه النمو في الجذع وتماسك الجزيئات والصلابة وكذلك سماكة الشجرة ولون أخشابها. ومن الأمور المتعارف عليها لدى أغلب النجارين وجود أوقات ومواسم معينة في السنة لقطع الأشجار كناحية صحية لضمان عدم تعرضها للتلف والضرر, الذي قد تسببه بعض الحشرات والديدان التي تنخز الخشب من الداخل, وتتم عملية قطع الأشجار إما في (البشرة وهو وقت نضوج الرطب أو في (مرابعين الشتاء كما أن آخر (النعايم وقت غير محبب لهذه العملية بالإضافة لبداية موسم الصرام. جذوع النخيل استخدمت جذوع النخيل بشكل واسع في العمارة التقليدية نظرا لقوتها ووفرتها في الأسقف وفي تدعيم جسور الجدران الطينية والفتحات الجدارية (الروازن والشبابيك كما استخدمت جذوع النخيل في عمل الأبواب الكبيرة لكن الملاحظ هو أن طبيعة جذع النخلة لم تكن تصلح للاستخدامات الجمالية في الزخرفة والتزيين بسبب التركيبة الداخلية الهشة ويتصف خشب (السدر بكثير من الصفات التي جعلته أكثر الأخشاب المحلية جودة وقابلية لعملية النقش والزخرفة من حيث سهولة النقش ولونه الجميل المائل للحمرة عوضا عن كونه الخامة الأولى التي استخدمت في عمل الأبواب والنوافذ كما استخدم خشب (السدر في عمل بعض أجزاء السفينة, ولخشب (الإثل مكانة مهمة في صناعة الأبواب حيث يعتمد عليه في عمل (صاير الباب وكذلك في عمل الإطار الخارجي للباب وكذلك (الضواريب أو (الشلامين الخلفية للباب المسماري نظرا لقوته وقامته المستوية. ولا نريد هنا المبالغة في مدى فاعلية الأخشاب المحلية التي لم تكن تفي بحاجة وتطلعات الحرفي المحلي الذي كثيرا ما تحايل لجعلها تناسق وظائف عدة. (الأخشاب المستوردة لقد أتاحت الأخشاب المستوردة للحرفي المحلي فرصة كبيرة لتنفيذ الكثير من آماله وتطلعاته وفتحت أمامه آفاقا إبداعية متعددة. (ازدهار حركة التجارة ومن الصعب تحديد فترة زمنية محددة لوصول تلك الأخشاب إلى المنطقة لكنها كانت ذات صلة بازدهار حركة التجارة البحرية عبر منافذ المنطقة الشرقية البحرية عبر صلاتها المباشرة بموانئ البحرين والتي تفد إليها مختلف أنواع الأخشاب من سواحل الهند وأفريقيا وشرق آسيا. عرفت أنواع كثيرة من الأخشاب المستوردة مثل خشب (السيسم الذي تصنع منه الصناديق الخشبية و (الساج والذي يعتبر أفضل أنواع الأخشاب الذي استخدم في صناعة السفن بمختلف أنواعها وكذلك الأبواب وهناك (الصنوبر و (الشوح و (السيامي و (الجاوى. لقد كانت حرفة النجارة ذات ارتباط وثيق بأمور حياتية كثيرة في المجتمع المحلي وأهمها ما له علاقة بالمعمار التقليدي المحلي الذي مثلته نخبة متميزة من الحرفيين على أن هناك طبقات حرفية متفاوتة من النجارين كانت تعمل في مستويات تناسب قدراتها المهنية والذهنية فهناك من يتميز بقوة جسدية تساعده في القيام بقطع الأشجار وتنظيفها. يقال له (خكري نشيط وهناك بعض الأعمال الخشبية البسيطة التي كان يقوم بها بعض النجارين العاديين والتي تفي بحاجات الناس من الحضر والبدو الذين كان لهم اتصال كبير بالمناطق الحضرية يأتون خلال انعقاد الأسواق الأسبوعية المعروفة (كسوق الخميس أو خلال موسم الصرام لعرض منتجاتهم من الدهن والصوف مقابل شرائهم للمنتجات المحلية كالتمور والمنتجات الخشبية كأطناب الخيام التي تصنع من أغصان الإثل والتوت المتبقية وتسمى (خردة أو (ملاميض وكذلك (السرج التي توضع على ظهور المطايا. (بين النجارة والقلافة ترتبط النجارة التقليدية المحلية بشكل وثيق بحرفة صناعة السفن الخشبية (القلافة وتتلاقى الحرفتان في الكثير من الأمور كالمادة الأساسية في الحرفتين وهي الأخشاب وكذلك الأدوات والعدد المستخدمة إلا أن لكل حرفة أصولا ومبادئ وأهدافا مختلفة وبسبب الطبيعة الساحلية لأغلب مدن المنطقة الشرقية فقد ازدهرت صناعة السفن في عدد من سواحلها كالقطيف ودارين والجبيل مع ازدهار الحركة التجارية في المغاصات والهيرات المعروفة في الخليج للبحث عن اللؤلؤ وعرفت أنواع عديدة من سفن الصيد والسفن التجارية الكبيرة (كالبتيل و (البقارة و (البوم و (البغلة حاملة الخير والنماء للإنسان هذه المنطقة في الوقت الذي لم تكن فيه النجارة وصناعة الأبواب وملحقاتها بذلك الحجم والأهمية إلى أن بدأت التجمعات السكنية في النمو والامتداد الحضري مما استوجب معها وجود طبقة من النجارين لمواكبة ذلك الامتداد والتوسع العمراني فكان اتجاه بعض القلاليف وصناع السفن إلى النجارة وصناعة الأبواب خصوصا مع الضعف الذي بدأ يدب في حرفة صناعة السفن بسبب قلة الطلب عليها بعد الكساد الكبير الذي أصاب مغاصات اللؤلؤ في الخليج إثر اكتشاف اللؤلؤ الصناعي في حدود عام 1930م.