إن أي تقدم تصنعه الدول وأي نهضة تحققها المجتمعات هي نتيجة طبيعية لإرادة سياسية مستقلة، ورؤية مستقبلية واضحة، وقيادة طموحة وملهمة، ونظام إداري متفوق، وقيم مجتمعية راسخة وقوية. فالتفوق والنهضة الأوروبية الأمريكية خلال القرنيين الماضيين، جعلت العالم يتجه نحو النموذج والنظريات الإدارية الغربية المختلفة التي صنعت وحققت الاستراتيجية التنافسية للمؤسسات والشركات، فظهرت المدرسة العلمية في الإدارة التي تركز على الإنتاج المادي البحت، ومع التطورات المتتالية ظهرت مدرسة العلاقات الإنسانية التي ركزت على الإنسان كعامل مهم وحيوي للإنتاج والتقدم والتطور، ثم ظهرت المدرسة السلوكية في الإدارة التي جمعت بين المدرسة العلمية ومدرسة العلاقات الإنسانية، فكان العالم ينهل من المدرسة الغربية في الإدارة. وحينما برزت المدرسة اليابانية في الإدارة من خلال نظرية "Z" الذي كان تركيزها على الثقافة المجتمعية والتنظيمية للشعب الياباني، ظهرت حلقات الجودة ومبادئها المختلفة والتي نجحت بامتياز في اليابان، بفكر إداري مختلف ثم تتابعت ظهور النماذج والنظريات الإدارية اليابانية. واليوم نحن أمام مدرسة جديدة في الإدارة، مدرسة تتشابه في إطارها العام مع المدرسة الأسيوية ولكنها تختلف في مكوناتها وعناصرها. مدرسة في القيادة والإدارة استطاعت خلال أربعين سنة ماضية حينما وضعت الصين رؤيتها (2030) لمدة خمسين سنة لتكون الدولة رقم واحد في اقتصادات العالم، متفوقة على كل دول العالم بما فيها أمريكا، وتبقى على رؤيتها عشر سنوات وهي عازمة في عام (2030) على أن تكون الدولة رقم واحد في العالم اقتصادياً. إن التحول الاقتصادي الضخم والكبير الذي تشهده الصين هو نتيجة طبيعية وحتمية لعوامل وقضايا رئيسة يأتي في طليعتها القيادة والإدارة. لكي تنجح القيادة والإدارة في تحقيق التقدم والتطور والنهضة المطلوبة يجب أن تنطلق من ثقافة وقيم وتنوع المجتمع، فالعوامل الثقافية التي يمتاز به الصينيون ساهمت في نجاح الإدارة، فاستطاعت الإدارة الصينية أن تجمع بين المتناقضات، الجمع بين الاستمرارية والتيسير، الجمع بين الرؤية بعيدة المدى وإدارة الأولويات، الجمع بين منطق العلاقات ومنطق النتائج، الجمع بين الهدوء والحزم، الجمع بين التوسع الخارجي بلطف وهدوء والثبات والاستقرار وامتلاك البنية الداخلية القوية. تختلف الإدارة الصينية عن الإدارة الغربية في قدرتها على التحول وقدرتها على التغيير من خلال استثمار واستغلال الفرص، دون الاهتمام والتركيز على بناء النماذج الإدارية من أجل فهم الواقع وقد تستنزف تلك النماذج الوقت والجهد. من المرتكزات المهمة للإدارة الصينية هي التركيز على التنوع باعتباره ثراء وليس مشكلة، من خلال الانفتاح الثقافي على الدول والمجتمعات في العالم، واعتباره قاعدة وأساس للتحول الإداري والاقتصادي والثقافي. استطاعت القيادة والإدارة في الصين الجمع بين الانفتاح والهوية، الانفتاح على التجارب والثقافات المتنوعة والمختلفة، مع الحفاظ على الهوية الصينية التي تتسم بالانضباط والمبادرة والجد والحزم والهدوء والاتزان والإبداع. نحن أمام إدارة تستطيع ركوب الموجات العالمية، فاستطاعت الإدارة الصينية أن تركب قطار العولمة وهو يسير، بل استطاعت أن تستثمر العولمة وتحولها كمكتسبات لها، فلديها قدرة عجيبة على ركوب الموجات واستغلال الفرص، فعلى سبيل المثال لا الحصر شركة هواوي. تمتاز الإدارة الصينية بقدرتها الفائقة والسريعة على التعلم وباستمرار، والتطور كمجموعة من خلال التعلم، والاستفادة من تجارب الدول والمجتمعات الأخرى. انطلقت القيادة والإدارة الصينية للبناء والتقدم الاقتصادي من خلال واقعها وديموغرافية مجتمعها، فكان للتحول مرحلتين: المرحلة الأولى: هي مرحلة تأسيس وبناء البنية التحتية للبلد من مطارات وطرق ووسائل مواصلات واتصالات كمقوم أساسي لاقتصاد قوي. المرحلة الثانية: التوسع الخارجي في بناء علاقات مع الدول المختلفة وبهدوء، وفتح أسواق عالمية لها في بلدان ومجتمعات العالم. وتمتاز الإدارية الصينية بسياسة ذكية ورؤية واضحة وقيادة تناور على المستوى الدولي؛ من أجل توسيع النجاح الصيني. تختلف الإدارة الصينية عن الإدارة الغربية في الانفتاح والابتكار والإبداع والتفكير خارج الصندوق وركوب الموجات واستثمار واستغلال الفرص، فهي لا تستخدم المنطق الديكارتي في التحول الإداري. وتمتلك الإدارة الصينية قدرة عجيبة على اكتشاف وابتكار طرق تسويقها، ليقينها أن التسويق الناجح يرتكز على إدارة ناجحة وصناعات جيدة وعلاقات واضحة. إن أحد أسباب وعوامل نجاح المدرسة الصينية في الإدارة، أنها ارتكزت وانطلقت من العوامل الثقافية للمجتمع الصيني، والتنوع الديموغرافي، والانفتاح الثقافي، واستثمار الموارد البشرية بطريقة صحيحة وفعالة. – أستاذ القيادة والتخطيط الاستراتيجي