أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله – في يوم الخميس 9/4/1436ه الموافق 29/1/2015م عدداً من القرارات والأوامر الملكية والتي تحمل في طياتها نهضة تنموية شمولية ومنها قرار دمج "وزارة التربية والتعليم" و"وزارة التعليم العالي" في وزارة واحدة أطلق عليها اسم "وزارة التعليم"، وهذا القرار يمثل رؤية قائد، ودوماً رؤية القادة تمثل تحديا لمن يقوم بتحقيقها، وبالتالي فهي تحدٍ كبير للقائمين على وزارة التعليم، وقد كان لي مشاركات إعلامية حول موضوع الدمج وقدمت تصوراً عاماً حول رؤية القائد بدمج التعليم، وطلب مني عدد من الأساتذة والزملاء والمهتمين رؤيتي حول دمج التعليم، ومن ذلك الوقت فالموضوع محل اهتمامي وبحثي العلمي وسخرت الجهود لأجل أقدم للمجتمع رؤية موضوعية حول دمج الوزارتين. وهذا المقال وحدة واحدة متماسكة، فأرجو من القارئ الكريم العمق الفكري في قراءته وبشكل شمولي بعيداً عن التجزئة والبتر حتى يُفهم فهماً صحيحاً يحقق الهدف منه. في منتصف القرن العشرين ظهر جلياً فيما يعرف بعمليات الاندماج والاستحواذ، وبلغت ذروتها في الربع الأخير من القرن العشرين، وفي بداية القرن الواحد والعشرين انتشر هذا المفهوم خصوصاً في بيئة إدارة الأعمال والتي تحمل في مضمونها استمرار المؤسسة والمنظمة وبقاءها وقدرتها على التنافس والحد من الخسائر التي تتعرض لها. فالاندماج هو التحام شركتين أو أكثر، ويؤدي إلى زوال الشركات المندمجة لصالح ظهور كيان جديد ينتقل إليه جميع حقوق والتزامات الشركات الزائلة. والاستحواذ يعني السيطرة المالية والإدارية لإحدى الشركات على نشاط شركة أخرى، وذلك عن طريق شراء كل أو نسبة من الأسهم العادية التي لها حق التصويت في الجمعية العامة للشركة المستحوذ عليها سواء تم شراء الأسهم بالاتفاق مع الإدارة الحالية أو بدون، لأن المهم أن تسمح النسبة المشتراة للشركة المستحوذة بالهيمنة على مجلس إدارة الشركة المستحوذ عليها. ولابد من التفريق بين مصطلح الاستحواذ، ومصطلح الاندماج، فالاستحواذ نوعان، أحدهما يتم بصفة ودّية، والآخر يتم بطريقة جبرية، وهو ما يتم رغماً عن رغبة المساهمين. أما الاندماج، فيتم بطريقة ودّية، وبين شركتين متكافئتين، حتى لو كانت الآلية النهائية هي إصدار إحدى الشركتين أسهماً إضافية تمنح لمساهمي الشركة الأخرى. ويحقق الاندماج عدداً من الفوائد أهمها: – يساعد الاندماج بين الشركات المماثلة على نمو هذه الشركات بسرعة في قطاعها أو في قطاع جديد أو مكان جديد، دون الحاجة إلى إنشاء كيانات أو مشروع مشترك أو فروع جديدة. – يوفر الاندماج استخدام التكنولوجيا المتقدمة والخبرات الفنية والصناعية والتدريب للعمالة وهو ما يؤدي إلى تحسين الإنتاجية وتطوير الأنظمة الإدارية والمالية. – زيادة كفاءة الحصول على التمويل من المؤسسات المالية المحلية والعالمية بشروط ملائمة. – الاندماج قد يكون الحل المثالي لبعض الشركات المتعثرة والمهددة بالإفلاس. والأمثلة على الاندماج: مثال من عالم السيارات: شركة بنز وشركة دايملر, اندمجتا في شركة دايملر بينز، ومثال من عالم الهواتف والجوالات: شركة سوني مع شركة إيريكسون أو شركة بينك مع شركة سيمنس. ومثال على الاستحواذ: استحواذ مجموعة "الكترولوكس" العالمية على شركة "أوليمبيك جروب" وتعد شركة أوليمبيك من الشركات القائدة في قطاع إنتاج وتوزيع الأجهزة المنزلية. ولكن الاندماج عملية تنظيمية معقدة، ذات مخاطر عالية يذكر ماناس (2011م) أن نسبة الفشل قد تصل إلى 40% أو 60% وغالباً لا تظهر المشاكل الواقعية إلا بعد أن يأخذ الاندماج شكلاً رسمياً، ويرى أن هذه المشاكل يمكن تجنبها إذا تم بذل مزيد من الاهتمام لعملية التكامل في مرحلة ما بعد الاندماج. فعمليات الاندماج بطبيعتها عمليات معقدة ومتعددة المستويات ومتعددة المراحل والتخصصات، فذَكَرَ وآن (2008م) أن التكامل بعد الاندماج في المؤسسات والمنظمات يمر عادة بأربعة مراحل أولاً مرحلة ما قبل الاندماج (الاتصال الأولي) وثانياً مرحلة التمكين من القوى وثالثاً مرحلة التنفيذ وأخيراً مرحلة الاستقرار (وهي مرحلة القبول والتنقيح للاندماج). وعلى الرغم من كون هذه الخطوات متتالية إلا أن التكامل لا يكون عادة عملية خطية تماماً بسبب بعض العوامل الخارجية مثل التغيرات السياسية والاقتصادية، كما قد يعطل عملية التكامل بعض العوامل الداخلية كالمقاومة لعملية الاندماج المقترحة من القيادات والأفراد. (لارسون وفنكلستين، 2000م). كما ذكرت دراسة (تاورزبيرين، 2003م) أن 57% من المسؤولين الذين تمت عليهم الدراسة أكدوا أن عدم وجود ثقافة متجانسة هي سبب فشل الاندماج والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى عدم قابلية تحقيق هذا الاندماج. ويرى بعض السياسيين أن دمج الوزارات إن كان خياراً استراتيجياً، فإن من شأنه أن يحد من قدرة الوزارات على القيام بواجبها المنوط بها بالشكل الصحيح. وعلى العكس من ذلك نجد أن مفهوم ترشيق الوزارات يجب أن ينسحب على جميع مؤسسات القطاع العام كي تحقق النتائج الإدارية والاقتصادية المرجوة منها. ومن الأمثلة المحلية على ترشيق الوزارات وانفصالها عن بعض من أجل تركيز الجهود والأعمال وتقليل أعداد الملفات، انفصال وزارة الحج عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، وانفصال وزارة العمل عن الشؤون الاجتماعية، وانفصال البريد عن الهاتف وأصبح مؤسسة والاتصالات شركة وأنشئت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات وغيرها من الأمثلة التي تعتبر شاهد على النجاح الإداري والتنظيمي في مؤسسات القطاع العام. وقد ألقى الاندماج بضلاله على المؤسسات والمنظمات التعليمية والتي تسعى لتحسين الأداء ومواجهة التحديات والتغيرات، ففي بلدان مثل استراليا وبريطانيا والنرويج والسويد وجنوب أفريقيا أُستخدم الاندماج بين المنظمات التعليمية من قبل الحكومات لتحقيق مجموعة من الأغراض منها تخفيف الدعم المالي وتحسين الكفاءة والجودة، كما اندمجت إدارة التعليم العام وإدارة التعليم العالي في دول مثل أمريكا وروسيا والهند والتي تتميز بكبر المساحة الجغرافية وطبيعة أنظمتها ((اللامركزية)). (هارمان وميك، 2002م). وقد استخدمت عمليات الدمج بين المؤسسات التعليمية لمعالجة المشكلات وبناء جامعات أكبر وأشمل. وسبق أن تمت عمليات اندماج واستحواذ لمؤسسات تعليمية في المملكة العربية السعودية كضم كليات المعلمين إلى وزارة التعليم العالي آنذاك كجهة إشرافية واندمجت كل كلية مع الجامعة التي قريبة منها جغرافياً وتدريجياً حتى اندمجت مع كليات التربية أو أصبحت هي كلية تربية من كليات الجامعة، وتم ضم الكليات الصحية أيضاً إلى وزارة التعليم العالي ممثلة في الجامعات والتي اندمجت تدريجياً مع كليات الطب والعلوم الطبية التطبيقية بالجامعات، وكذلك دمج وزارة المعارف بالرئاسة العامة لتعليم البنات والذي تخلله صراعات تنظيمية كثيرة، ويبدو أنه تحول إلى استحواذ أكثر من كونه اندماجا وأرى أنه لم يتحقق التكامل التنظيمي بينهما لأسباب عدة، وكان الأولى توثيق العمليات الإدارية والتنظيمية وما صاحبها من إيجابيات وسلبيات حتى يتم الاستفادة منها مستقبلاً في عمليات مشابهة. والجانب الإيجابي أنه يوجد تجارب ناجحة للاندماج بين المنظمات التي لديها تدابير استباقية لتحديد وإدارة أي خلاف في النهج والإجراءات قد ينطوي عنه أي صعوبات بمعنى أن الاختلاف في الثقافة التنظيمية لا يحول بين الاندماج إذا وضعت التدابير التنظيمية والإجراءات المناسبة فعلى سبيل المثال وضع مستشارين خارجيين لتوجيه عمل الفريق الداخلي للتكامل. (غوتر واتكيز، 2008م). لذا فنجاح عملية الاندماج وتحقيق التكامل التنظيمي يحتاج إلى إدارة تمتلك العلم بالجوانب الإدارية للتكامل ومراحله واستراتيجياته بالإضافة إلى المهارة الفنية الكافية التي تهتم بالجوانب الإنسانية والثقافة التنظيمية حتى يتم التحول بطريقة منهجية وفق إجراءات إدارية مناسبة.( Towers Perrin, 2003)، (Zuckerman, 2011) والقرار الذي صدر هو بدمج وزارة مع وزارة (أي دمج إدارتين) وليس تعليم عالي مع تعليم عام ويجب أن يفهم المجتمع ويعي ذلك، فدمج وزارتين معاً في وزارة واحدة الهدف منه هو أن تكون هناك جهة إدارية تنظيمية واحدة تشرف على التعليم معاً، بحيث تكون مهامها تصورية إدراكية تخطيطية لأجل وضع رؤى وسياسات واستراتيجيات واحدة تتصف بالشمول والتكامل. ومن أجل أن تنجح عمليات الدمج بين وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم تحتاج إلى إدارة ومتابعة في جميع مراحله حتى تكتمل جوانبه ويؤتي ثماره، فعندما تتكامل منظومة العمل وتتشكل هوية وثقافة تنظيمية متقاربة سيكون لها انعكاسه على منظومة العمل وعلى المؤسسات التعليمية. وهذه بعض المقترحات والتصورات والإجراءات التي قد تسهم في نجاح عملية الدمج: – إيجاد رؤية استراتيجية واحدة وجديدة للوزارة. – يكون الدمج على مستوى الإدارة العليا فقط ولا يكون على مستوى الإدارتين الوسطى والتنفيذية. – تتولى القيادة العليا في الوزارة وضع الرؤى والتصورات والخطط والبرامج التي تشمل التعليم العام والعالي بحيث تكون مبنية على التكامل والترابط والتنسيق بعيداً عن العشوائية والانفصال. – البعد عن دمج الإدارات والأقسام الإدارية المختلفة لأن في ذلك هدرا للجهد والوقت والمال دون جدوى اقتصادية أو عوائد تعليمية يمكن أن تفيد، وقد يطول الأمر في ذلك. – التركيز على الهياكل التنظيمية الأقل تشعباً والأكفأ في الاتصال. – إدارة الموارد البشرية المتباينة في الوظائف والتخصصات والتطلعات. – استخدام الأنظمة التقنية لأتمتت العمليات الإدارية. – الاستفادة من الدروس السابقة في عمليات الدمج بين المؤسسات الحكومية وخصوصاً التعليمية كما حدث عندما تم دمج تعليم البنين والبنات تحت مظلة وزارة التربية والتعليم (سابقاً). – الدمج يحقق الفائدة عندما يكون على مستوى وضع الخطط والبرامج والمشاريع على مستوى القيادة العليا. – دمج وزارتين كبيرتين يحتاج إلى قياديين تحويلين متخصصين قادرين على تبني الرؤية وتنفيذ البرامج والخطط. – أن يكون لكل قطاع تعليمي نظامه الإداري التنفيذي المستقل والذي يخدم برامج الوزارة وخططها وفقاً للرؤية الموحدة. ختاماً يتضح أن هناك نوعين من الدمج في التعليم إما دمج إدارة مع إدارة أو دمج مؤسسة تعليمية مع مؤسسة تعليمية والأخير هو السائد والناجح، ويتبين من التجارب الناجحة التي تم دمج إدارة التعليم العالي مع إدارة التعليم العام كأمريكا وروسيا مثلاً أن النظام بها غير مركزي مع وجود حرية واستقلالية للإدارات والمؤسسات التعليمية والجامعات بعيداً عن المركزية والروتين الممل والتأخير وهذا جانب مهم جداً لنجاحه، وفي رأيي أن نظام الاستقلالية للإدارات والمؤسسات التعليمة في ظل نظام إداري وتنظيمي وسياسي مركزي وثقافة تنظيمية تدعم ذلك لا يمكن أن ينجح إلا إذا تغير النظام والثقافة من (مركزي) إلى (لا مركزي) وهي مسألة تحتاج جهدا ووقتا. رابط الخبر بصحيفة الوئام: دمج التعليم بين التكامل والاستحواذ