من أصعب اللحظات التي نمر فيها هي تلك اللحظة التي تشعر فيها أن العالم قد ضاق حتى نفذ الهواء ، وأن الأرض قد التصقت بالسماء ، وأن الكون قد خلا من البشر ، وانعدمت فيها الحياة . لأشك أن لحظات الندم من اللحظات التي تشعرك بذلك الشعور الحزين الذي يملأ كونك الواسع بتلك السحابة الكئيبة ، وينفث دخانه ليجعل الدنيا تطبق عليك ، وأطنان الهموم تثقل على صدرك . فترى الحياة شاحبة الملامح رغم بريقها ، وترى الكون باهت اللون رغم توهجه ، وترى البشر على صورهم الحقيقة ، وكأنك ترى قلوبهم مفتوحة أمامك ، فتصغي لما كانت تحكي نفوسهم عنك . حالة الندم هذه لا أعني بها ذلك الإحساس المؤلم الذي يصاحبنا بعد أن نتفوه ببعض الحماقات ، أو نقوم ببعض التصرفات المشينة ، أو نؤمن ببعض القناعات الباليه . فنندم على كلمة لم نحسن انتقائها ، وعلى زلل كان بالإمكان تجنبه بقدر من الحذر ، وعلى مشكلة يمكن تفاديها بشيء من الحرص، وعلاقة يمكن المحافظة عليها بالقليل من الصبر . فالندم على الخطأ أسلوب حياة لأصحاب المبادئ القوية ، ومنهاج حق لذوي العقول المبصرة ، و طوق نجاة لمن غرس تقوى الله في قلبه . أقسى أنواع الندم لا يكون ذلك الشعور المؤلم المصاحب لارتكابنا للأخطاء، أو فعل الحماقات ، أو الاستسلام لبعض القناعات التي عفى عليها الزمن . ندم من نوع آخر وليس لأننا فعلنا الخطأ، أو وقعنا بالزلل ، أو اقترفنا الذنوب . بل لأننا فعلنا الصواب لكن للإنسان الخطأ ، وتصرفنا بشهامة لعديم المروءة وشعرنا بعديم الشعور ،و تعاطفنا مع ميت الحس . وبذلنا بسخاء لنفوس شحيحة ، وصدقنا قلوب مريضة ، وغرتنا أقنعة زائفة . ليأتي موقف عابر ، أو خلاف طارئ ، أو موقف غير ذي بال ،يسقط الأقنعة مع الأيام ، ويكشف الحقيقة مع الوقت . لتسمع دوي تلك الصفعة القوية على خدك ، تزلل أعماقك بقوة ، وتبلد إحساسك لبعض الوقت . لتعيش الصدمة مع نفسك ،فتعصف بك رياح الندم في كل اتجاه ،وتتطاير الذكريات في كل مكان ، ليمر شريط الذكرى الحزين أمامك مابين لحظات أنسك به ، ومواقفك معه في أصعب الأزمات ، وخوفك عليه عندما يغيب عنك ، وتلازمك صورته في أي مكان تذهب إليه . فتندم على تمسكك بهم مقابل سهولة تخليه عنك ، وتتحسر على جهدك في إسعاده مقابل لا مبالاته بك ،و تضحياتك لأجله مقابل جحوده لك. لتتقزم نفسك أمام نفسك بذل ، وتجاهد لتجمع شتات نفسك المنكسرة ، وتحتضن ما تبقى من كبريائك المهان وتعلن الرحيل ، لتعيش حالة من أقسى حالات الندم وهو الندم على فعل الصواب للشخص الخطأ. وقد أجاد الشاعر الجاهلي زهير ابن أبي سلمى التعبير عن تلك التجربة المريرة حين قال: وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ يَكُنْ حَمْدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ بقلم /أمل الحربي رابط الخبر بصحيفة الوئام: أقسى من الندم