يعيش المرء في حياة بممرات متلونة يحمل على عاتقه ثقل أن يكون إنساناً في كل المواقف وفي أصعب الظروف.. يحاول أن يتشبث بجميع ما تعلمه في الحياة من قيم تشكل منطلقاته وما يشعر فيه ويؤمن، وما يجب أن يفعل حينما يضعف، أو حينما يجد نفسه تحت عجلة ضغوطات كثيرة قد يقدم التنازلات أو ربما يحني ظهره قليلاً.. ويبقى الإنسان يصر دائماً على أن هناك خطوطاً عريضة في حياته لا يمكن أن يتخطاها بل ربما لا يتنازل عنها فيجدها تتقاطع مع أهم ما يشكل مبادئه وهو مفهوم الكرامة.. فيقاتل حتى يبقى ذلك التمثال صامداً بداخله لا يسمح لأحد أن يمسه أو يشوهه مهما كانت الخسارة، في حين ينطلق البعض من فكرة أن الكرامة توجد في خزانة المدخرات ومن الممكن أن نستعيرها متى رغبنا، أو نستبقيها في سباتها العميق دون أن تخرج بين موقف وآخر لتذكرنا بوجودها.. يحدث ذلك حينما تتشكل خلفية الإنسان من خلال ما يراه صحيحاً وما يقيمه على أنه الخطأ. وتتحول الكرامة لدى البعض إلى انصهار لما يجب عليه أن يكون عليه الإنسان فيفقد نفسه وأخلاقياته وإنسانيته حينما يتخلى عنها.. تلك الكرامة لا يمكن لنا أن نضعها في إطار محدد سوى أنها ما يشعر به الإنسان وما يؤمن به وما يشكل لديه احترامه لذاته.. وما يقبله عليها وما يرفضها، لكن الكرامة هنا تختفي لدى البعض ليتسول بأخلاقياته ويتحول إلى متسول للأشياء على حساب الضحية الكرامة التي تبيت مريضة أو أنها تموت، وما أقسى تلك اللحظات التي يجد فيها المرء نفسه بلا كرامة يحارب من أجلها، وما أقسى اللحظات التي يضطر فيها أن "يدوس" عليها من أجل شيء يحبه أو يسعى ليقدم من أجله شيء.. والأصعب أن تضحي بكرامتك من أجل ما لا يمكن أن تتجاهله أبدا.. "قلبك" الذي يتمرد عليك كطفل منفلت من طابور إلى حالة الفقد للتوازن التي تضطر من خلالها أن تغفل عيناك عن شيء من كرامتك. ويبقى مفهوم الكرامة حائراً بين أخلاقيات الإنسان التي هو من يحددها.. فماالذي يدفع البعض أن ينزل عن مستوى الكرامة؟ و ماالذي يخلق الفارق هنا بين إنسان يحمي كرامته حتى إن كان على حساب نفسه في حين يتخلى البعض عنها حتى إن كانت لأمور بسيطة أو غير مهمة أو جوهرية؟ وما دوافع البعض نحو القتال من أجل كرامته حتى إن خسر عمله أو من يحب أو الحياة.. في حين يوجد من يتخلى عن كرامته لمجرد أحقاد وهمية من الناجحين أو من الشخصيات الأكثر تأثيراً؟ عادة متأصلة بدايةً، ترى "ابتهاج الحمادي" أن البعض يفقد الشعور بأهمية حفظ كرامته في مواقف عليه أن يحتفظ بها ويحترمها ليرفع من قيمة ذاته، وذلك عندما يتحول التخلي عن الكرامة عادة متأصلة لدى المرء، فلا يستطيع أن يتخلى عن تساهله في تقدير ذاته، إذ إن كثيراً من الناس لا يمانعون أن ينزلوا بمستوى ذاتهم إلى التذلل وإبداء الضعف فقط ليصلوا إلى ما يرغبون إليه في الحياة، مشيرةً إلى أن إحدى زميلاتها في العمل تتذلل لمديرتها في العمل حتى تحمي نفسها من شرها، حتى وصل الأمر سوءاً إلى أنها أصبحت تنفذ أعمالها حتى إن تغيبت عن العمل بعذر؛ حتى تتخلص من السوء الذي قد يلحقها من تلك المديرة، وكثيراً ما تعمدت تلك المديرة أن تستغلها حتى للإساءة للبعض دون وجه حق فتبادر بتنفيذ ما يطلب منها دون نقاش حتى أصبحت كرامتها في التراب. اعتز بنفسك ولا تقبل الإهانة والتجريح أو تسمح ل«من يشوف الناس بعين طبعه» أن يتجرأ على ذاتك وأكدت على أن من لا يحفظ كرامته من إهانات أو تجريح أو استغلال البعض فإن ذلك يمثل جزءاً من شخصيته التي اعتادت على أن تضعف وذلك يعود بنا إلى المربع الأول وهو التربية ومفهوم التوجيه لدى الأطفال بتدريبهم على عدم التخلي أبداً عن قيمة ذواتهم ويحفظون كرامتهم، حتى وإن كلفهم ذلك خسارة شيء ثمين في الحياة؛ فالكرامة أهم ما يمكن أن يمتلكه المرء، وعليه أن يكون جديراً بالحفاظ عليها حتى يحتفظ بإنسانيته. تخلٍ وقتي وأشارت "معالي اليوسف" إلى أن البعض يتخلى عن كرامته ولكن ليس بشكل دائم، بل في مواقف معينة تستلزم التخلى عنها، مبينة أن احترام الكرامة والذات لديهم وقتي مقترن بالظرف والحالة المستوجبة منهم أن يتنازلوا عن قيمهم، إلاّ أنهم في المواقف الاعتيادية تجدهم يتحدثون كثيراً عن ذواتهم باعتزاز شديد، وأنه لا يمكن أن ينزلوا بمستوى كرامتهم لأي حد يهينهم، ويتجلى ذلك حينما يكون الإنسان يمر بحاجة ماسة للحصول على مايريد فإنه يبرر تخليه عن كرامته واحترامه لذاته بالحاجة الماسة التي تدفعه لأن يقدم التنازلات، موضحةً أن بعض من يضع نفسه في موضع الشبهات أو المخالفات -حتى إن وصلت إلى مخالفات سلوكية أو أخلاقية- يبرر لنفسه هدره لكرامته بحثاً عن الوصول إلى أهداف معينة. خداع ومكر وترى "فاطمة العباد" أن هناك مواضع أكثر خطورة قد يتخلى فيها المرء عن كرامته وربما ينزل بمستوى ذاته إلى مستوى بعيد جداً عن احترام النفس، وهي المواضع التي يسلك فيها سُبل الخداع والمكر مع الآخرين حتى يصل إلى أهدافه أو يحقق أهداف غيره، فيتحول إلى إنسان بلا كرامة قبل أن يشوه إنسانيته من أجل بعض الأهداف المتدنية فقط؛ لأنه إنسان منقاد لغيره ولا يوجد لديه رقي في التعاطي مع الذات والتعالي على السلوكيات غير الإنسانية. وروت موقفاً تعرضت خلاله لمكر وخداع من قبل زميلة أرادت أن تشوه صورتها كموظفه في قطاع العمل، فأصبحت تنقل عنها أموراً غير حقيقية من خلال صديقتها التي كانت تثق بها، ولكن تلك الصديقة تحولت إلى إنسان بلا قيم وانكشف وجهها القبيح حينما بدا أنها كانت تمكُر وتخدعها لتتقرب منها حتى تخدم من يرغب بالإساءة فتخلت عن أخلاقياتها ووضعت نفسها موضع أن تكون "التبع" لمن يرغب بالسوء دون أن تفكر، حتى تحولت تلك الصديقة إلى تابع يتحرك للآخرين بأوامر ونواهي دون تفكير. لحظات الإهانة قاسية ولا تنسى وقالت:"من الصعب جداً أن يكون سلاح المرء في الحياة خديعته وتخطيطه لتدبير المكائد التي قد تشوه إنسانيته؛ لأنه يرغب في أن يحقق ما يرغب، فأي قيمة للإنسان حينما يتحول إلى إنسان يتحرك بالرموت كنترول من آخرين يديرونه كما يديرون القنوات الفضائية دون إرادة أو كرامة، أو حتى أن يكون له قيمة واحترام لنفسه"، متمنيةً أن يسعى الإنسان دائماً إلى تطوير وتدريب شخصيته على الرقابة الدائمة وتعميق مفهوم الكرامة الذي لا يدخل فقط في مفهوم الحاجة بل كذلك في نظرتها للأمور وتعاطينا معها، وفي مراعاة حقوق الإنسان واحترام ما يتعلق به وعدم محاولة الإساءة لأحد لمجرد التسول الذاتي الذي قد ينزل بنا إلى الحضيض. وشددت على أن مفهوم الكرامة يخرج عن معنى محدد ليدخل في تاريخ الإنسان الذي يعيشه نحو كيف يفكر، وينظر للأمور، ويتعايش مع الآخرين، وكيف يرتقي بإنسانيته حتى يعي معنى احترام وحفظ كرامة ذاته والآخرين من خلال تعامله معهم، ولا يدفعهم بأسلوبه نحو أن يتخلوا عنه لمجرد الظروف أو ما يتم الإيمان به أنه أكثر صحة وعقلانية. ذات متدنية وأكد "د.أسعد صبر" -استشاري طب نفسي- على أنه لا يوجد تعريف نفسي لمفهوم الكرامة، إلاّ أنه من الممكن ربط الإحساس بقيمة الذات أنها الكرامة وعندها يكون لها تعريفاً في "علم النفس"، مشيراً إلى أن الإحساس بأهمية الذات وقيمتها لدى صاحبها ومحاولة تقديمها على رغبات الذات وعلى أهمية الأشياء الأخرى ورغبات الآخرين يمكن أن يكون مثلما يُطلق عليه البعض "الكرامة"، ذاكراً أن هذا الربط إن كان هو ما يسمى بالكرامة فإن قيمة الذات المرتفعة ليس من السهل لمن يتصف بذلك أن يتنازل عن رغباته وتطلعاته وما يضحي به الآخرين بسهولة مقارنة مع إنسان قيمة الذات لديه متدنية وشعوره بأهمية ذاته ورغباته وأهمية تطلعات ليس لها ثقل كبير واهتمام، ومن السهل جداً أن يتنازل للآخرين عنها. وبيّن أن المبادرة الدائمة تجاه الأشياء في الحياة لها علاقة بالثقة بالنفس والإحساس بالقدرة على عمل ما وإحساسه بالمسؤولية تجاه ذاته وإحساسه بضرورة إنجاز عمل معين حتى يجعل لذاته أو عمله قيمة، وعندها إذا وجدت الثقة والقيمة والإحساس بالنفس سيجعله ذلك أكثر قدرة على المبادرة في العمل، لافتاً إلى أن السلوكيات التي يقيّمها البعض أنها لا تدخل ضمن الحفاظ على الكرامة أو عكس ذلك يدور حول الفكرة وطريقة ترجمة هذا الموقف لدى الإنسان، فالبعض من الناس يكون لديه ثقة بنفسه واحترام لذاته يدفعه أن يفسر احتياج الآخرين أو احتياجه للآخرين من الأمور الطبيعية التي يحتاج فيها الناس لبعضهم، وكما أنا احتاج للبعض فإن البعض سيحتاج لي يوماً، ولذلك فإن هذا الاحتياج لن يقلل لديه من مفهوم الكرامة بل على العكس فإظهار الامتنان والشكر يرفع من قيمة الآخر، ويشعره بوجود من يحتفظ بفعل الجميل ويرده يوماً، وذلك لاينقص من قيمة الذات بل ربما يساعد على تكوين العلاقات الجديدة في الحياة. وذكر أن صياغة الأفكار بطريقة جديدة تمنح المرء القدرة على أن يفعل مايرغب دون أن يشعر أنه قلّل من كرامته أو ذاته حينما يطلب خدمة للآخرين، وذلك يدل على الثقة بالذات خلاف من يشعر أن الطلب والحاجة للآخر مؤلم جداً نفسياً له؛ لأنه يخالف مفهوم الكرامة، موضحاً أن من يحدد مفهوم الكرامة هي نظرة الإنسان وثقافته وخلفيته الفكرية وتجربته في الحياة وبناء الشخصية لديه وطريقة تربيته والبيئة التي عاش فيها، ولذلك النظرة إلى الكرامة تختلف بين الذكر والأنثى، كما أن التجارب هنا تختلف بين الجنسين فطبيعة الذكر يفكر بالأمور بطريقة عقلانية بينما المرأة تنظر للأمور بعاطفية، وذلك ما يخلق الاختلاف في النظرة للكرامة.