أحداث العنف في العراق لم تتوقف يوماً واحداً منذ الغزو الأميركي لهذا البلد، وكانت وتيرتها تتراوح بين الهدوء النسبي والتوتر الشامل الذي كان يلف معظم أرجاء العراق، وخاصة في الوسط، أحياناً أخرى. وقد كان هناك شبه إجماع بين المراقبين والمحللين السياسيين بأن أحداث العنف سوف تتصاعد بعد الانسحاب العسكري الأميركي من الأراضي العراقية، الذي اكتمل في نهايات العام الماضي. وبالفعل، يقول تقرير نشره "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في منتصف فبراير الماضي إن الوضع الأمني في العراق شهد تدهوراً أمنياً متسارعاً منذ انتهاء المهمة العسكرية الأميركية في العراق في منتصف ديسمبر 2011. غير أن الدراسة تقول إن تحليلاً مفصلاً لهذا الارتفاع المفاجئ في العنف يكشف أن انسحاب القوات الأميركية كان العامل الأقل أهمية في تحفيز العنف من دور سياسة الولاياتالمتحدة في إطلاق العنان لرئيس الوزراء نوري المالكي لفعل ما يحلو له في حملته لتعزيز سلطته. تتبع انتكاس الوضع الأمني في العراق غالباً ما ترتكز تصورات الأمن في العراق على عدد التفجيرات التي تسبب إصابات كبيرة - مثل السيارات المفخخة والهجمات بارتداء صدريات انتحارية في أماكن مزدحمة - في مواقع ذات حضور كثيف مثل بغداد أو على عدد القتلى الذي تعلن عنه الحكومة العراقية. ووفقاً لمقاييس "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" التي تعتمد على مصادر من قوات الأمن العراقية فإن العراق قد شهد 36 هجوماً مؤكَّداً من النوع الذي يحدث إصابات شاملة في يناير 2012 وتلك زيادة كبيرة عن متوسط 23 هجوماً شهرياً في الربع المنتهي في ديسمبر 2011. كما أن عدد القتلى المعلن عنه رسمياً هو الآخر في تزايد، حيث أفادت التقارير عن موت 340 مدنياً في يناير 2012 مقارنة ب155 في ديسمبر 2011. ويضيف التقرير أن نظرة فاحصة إلى العنف في محافظات العراق تكشف رؤية أشد قتامة لما قد حدث منذ ديسمبر 2011. وتعكس هجمات الإصابات الشاملة جزءاً واحداً فقط من حوادث العنف في العراق، حيث تتغافل إحصائيات الوفيات الطبيعة المستهدفة للعنف في البلاد هذه الأيام، حيث إن نسبة عالية من الضحايا هم من قادة المجتمع المحلي الموالين للحكومة. وعن كل شخص مقتول من هذه الفئة يتم تخويف عدد متضاعف من أشخاص آخرين كي يقدموا دعماً سلبياً للجماعات المتمردة. إن تحليل المستويات العامة للحوادث في جميع أنحاء البلاد هو وسيلة أفضل لتتبع هذه الاتجاهات، لكن هذا النوع من البيانات هو بالضبط المعطيات التي لم تعُد الحكومة الأميركية تتلقاها بسبب فك ارتباطها عسكرياً عن العراق. وفي الواقع فإن الحكومة الأميركية تبتعد ببطء عن المشهد في العراق بسبب الانسحاب العسكري وعجز السفارة الأميركية عن التحرك واستطلاع المعلومات. ووفقاً لقياسات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى المستمدة من الاتصالات الأمنية الوثيقة المستمرة في العراق فإن ثمة تقارير تفيد عن وقوع 561 هجوماً في يناير 2012 وهي زيادة عن ال494 هجوماً في ديسمبر 2011 وأعلى بكثير من الحوادث التي وقعت في نوفمبر وكان عددها 302 حادثة. ويؤكد التقرير أن المقارنة على أساس سنوي مفيدة على نحو خاص. فبعد عام من تشكيل حكومة المالكي الجديدة في أواخر 2010 ازداد عدد الحوادث المبلغ عنها، ويعود ذلك في معظمه إلى ارتفاع وتيرة العنف منذ منتصف ديسمبر. وفي الحقيقة تُظهر المقارنة على أساس سنوي أن أعمال العنف المبلغ عنها كانت أدنى بثلث في يناير 2011 (367 هجوماً في مجموعات بيانات معهد واشنطن) مما هي عليه الآن. وهذا الرقم عالي الأهمية، إذ تفيد التقارير أن حوادث العنف آخذة في التصاعد على الرغم من إزالة جميع الأهداف العسكرية الأميركية من طرق العراق في الربع الأخير من 2011 ورغم التراجع الحاد في مستوى الإبلاغ عن الحوادث مع تولي القوات العراقية زمام المسؤولية. وعندما تؤخذ هذه العوامل في الحسبان فإنه ليس من المبالغة القول إن أعمال العنف التي يقوم بها عراقي ضد عراقي قد تضاعفت منذ نوفمبر 2011. قياسات أمنية إقليمية لفهم طبيعة العنف والمحفزات التي تجعله يستمر ينبغي على المرء أن يلقي نظرة على مستوى المحافظات، بل ومستوى الأحياء أيضاً. فالعنف يتصاعد بحدة في ثلاثة مناطق رئيسة: • الموصل: بسبب التركيز العالي لضباط جيش النظام السابق في المدينة وجوارها من الحدود السورية كانت الموصل دائماً محوراً رئيساً للتمرد السُني. وفي نوفمبر 2011 كانت المحافظة هادئة حيث وقعت 21 حادثة أمنية فقط. وبحلول يناير 2012 قفز هذا الرقم الشهري خمسة أضعاف ليصل إلى 105 هجمات. • بوتقة الصهر الطائفية: ثمة أوعية انصهار شيعية-سُنية عديدة في بغداد والمحافظات المحيطة بها المجاورة للعاصمة. ويتصاعد العنف تدريجياً في جميع هذه المناطق، إما في شكل هجمات الإصابات الشاملة ضد الشيعة، أو في تلك الأكثر تكراراً وهي قيام المتمردين السُنة بقتل قيادات "الصحوة" و "أبناء العراق". • خطوط الصدع العرقية: يشتعل العنف على طول ما يسمى ب "خط الزناد" الذي يفصل العراق المُدار فيدرالياً عن "حكومة إقليم كردستان". فبالإضافة إلى التدهور الأمني الحاد في مناطق قابلة للانفجار مثل كركوك فإن كثيرا من المناطق الأصغر على طول الخط المتنازع عليه قد بدأت تشهد عنفاً بعد فترات مستدامة من الهدوء منذ عام 2009. ومن الواضح أن تنظيم «القاعدة في العراق» يمُر الآن بشيء من الانبعاث في البلاد. فقد تعلمت دروساً من الهزيمة التي لحقت بها في عام 2007 واندمجت إلى مدى أبعد مع جماعات التمرد السُنية القومية. كما استغل تنظيم «القاعدة في العراق» قرار الحكومة العراقية بإنهاء الدعم لقوات الشرطة شبه العسكرية من "أبناء العراق" من خلال تدشين حملة العصا والجزرة التي تجمع بين الاغتيالات المنتظمة وحالات العفو الدورية عن أعضاء "الصحوة" الذين يوافقون على تقديم دعم نشط أو سلبي للحركة الإرهابية. وبعد الانسحاب العسكري الأميركي أصبح تنظيم «القاعدة» - وليس الحكومة العراقية - الأسرع في استيعاب مفهوم الحملة العسكرية المتمحورة حول السكان. وفي الحقيقة فإن رؤية تنظيم «القاعدة في العراق» للحكومة العراقية كدكتاتورية شيعية مدعومة من قبل إيران تتوافق بقوة مع مشاعر العرب السُنة في أعقاب قيام حكومة المالكي بقمع محافظات وقادة السُنة في منتصف ديسمبر. السياسة الأميركية وزعزعة الاستقرار بعكس ما تثيره الضجة الإعلامية التي تتحدث عن تدخلات أجنبية كثيرة في العراق، يقول تقرير معهد واشنطن إن كثيرا مما يحدث في السياسات العراقية ليس له علاقة بالقرارات المتخذة في أي عاصمة خارجية. ومع ذلك يمكن القول بقوة إن التدهور الأمني الأخير في العراق كان قد تعمَّق من خلال قيام المزيج المؤسف بين الانسحاب العسكري الأميركي ونهج الولاياتالمتحدة بعدم التدخل في السياسات العراقية. وقد حدث ذلك بالضبط في الوقت الذي احتاج فيه العراقيون إلى الطمأنة، وضبط النفس بالنسبة للحكومة العراقية على وجه التحديد. إن الانسحاب العسكري الأميركي هو ليس وحده ما زعزع الاستقرار في العراق. والحقيقة هي أنه في السنتين التاليتين لبدء تخفيض القوات الأميركية قلَّت حوادث العنف. ففي نوفمبر 2008 عندما تم التوقيع على الاتفاقية الأمنية بين الولاياتالمتحدة والعراق وقع 1488 عملاً هجومياً، إلا أن هذا الرقم قد هبط إلى 302 في نوفمبر 2011. وربما كان الانسحاب العسكري الأميركي النهائي هو السبب المباشر لهذه اللحظة من الهشاشة السياسية، لكن طفرة عنف ما بعد ديسمبر في العراق لم تكن حتمية. وفي الواقع أنها كانت قابلة للتوقع بشكل لافت، وربما كانت قد خفَّت بفضل اتخاذ إجراءات دبلوماسية أميركية. فما الخطأ الذي وقع إذاً؟ عندما تشكلت حكومات عراقية متعاقبة في العراق ما بين 2004 و2010 دعمت واشنطن باستمرار السياسات التوافقية وظهور "حكومات وحدة وطنية" واسعة. ورغم أن هذه الأحلاف السياسية كانت ضعيفة بشتى الطرق، إلا أنها كانت ضرورية لتحقيق الاستقرار، لأنها في هذه المرحلة المبكرة من التطور السياسي العراقي قد خلقت نظاماً لم يكن فيه رابحون مطلقون أو خاسرون مطلقون في السياسات العراقية. ويبدو أن السياسة الأميركية قد تحولت بسرعة بعيداً عن هذا النموذج منذ ديسمبر 2011. ورغم أن الولاياتالمتحدة قد دفعت باتجاه عقد مؤتمر وطني لحل الأزمة السياسية، يبدو أن الدعم الأميركي يقف بثقله خلف رئيس الوزراء المالكي وسعيه لمركزة السُلطة على مجلس الوزراء والأجهزة الأمنية والمحاكم الفدرالية. كما أن المالكي هو المُسيطر في الأزمة السياسية الحالية ويُحدث انقساماً بين السياسيين العرب السُنة في كتلة "العراقية" ويضع شروطاً لتشكيل حكومة أغلبية تكون فيها بعض المحافظات والجماعات السياسية السُنية هي الخاسرة بلا شك. وتلك أرضية خصبة لقيام تمرُّد متجدد نشهد مَقدِمه بالفعل الآن. ماذا عسى الولاياتالمتحدة أن تفعل؟ من المرجَّح أن تشهد سنوات ما بعد الانسحاب من العراق بعض ردود الفعل السلبية ضد الولاياتالمتحدة. وهذا لا يعني أن النفوذ الأميركي في العراق قد انهار بل يُظهر أنه ينبغي استثمار رأس المال السياسي بحكمة للتأثير على القضايا ذات الأهمية الأكبر. لقد خاطر رئيس الوزراء المالكي بمعارضة جميع الفصائل العراقية في وقت واحد، وعلى وجه التحديد لأنه يؤمن أن واشنطن هي من بين القوى الخارجية التي تقف وراءه بحزم. ومن الواضح أن المالكي قد عاد من واشنطن متشجعاً في منتصف ديسمبر دون أن يكون قد تعرَّض ولو لعتاب تحذيري واحد من إدارة أوباما على أي من القضايا ذات الاهتمام التي كان ينبغي أن تحظى باحتجاج دبلوماسي مثل التعيين غير الدستوري لقادة أمنيين أو الاعتقالات الجماعية لمن يشتبه في كونهم بعثيين. ويقترح تقرير معهد واشنطن أن على الولاياتالمتحدة الكف علناً عن هذا القبول المتساهل لسلوك المالكي، كما يتوجب على سفير الولاياتالمتحدة المقبل في العراق أن يتخذ موقفاً أكثر تشدداً منذ البداية.