ما بين ظهور تنظيم القاعدة، وولادة تنظيم داعش، شهد العالم تغيرات كثيرة في خارطة الجماعات المتشددة، وتحدثت عدة تقارير ودراسات عن كيفية الاقتتال الذي استعر بين التنظيمين المتطرفين، لاسيما بعد اندلاع النزاع السوري، وتنافس التنظيمين حول اقتسام مناطق النفوذ الجغرافي من أيدي الفصائل السورية المسلحة، إضافة إلى انتهاج مبدأ "فرق تسد"، وتجلت هذه الخلافات بصورة واضحة في حلب، التي تعاني حاليا مأساة إنسانية، وأدى صراع التيارات والتنظيمات في النهاية إلى سقوط المدينة في أيدي النظام وميليشيات إيران. وتطرق تقرير مطول لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية، لسلسلة من الوقائع تكشف العلاقة بين تنظيمي القاعدة وداعش، والأشخاص الذين لهم أدوار مهمة في تشكيل التنظيم الأخير. وقال التقرير "إنه في أكتوبر 2006، تم ضبط عدد من المتشددين داخل مركبة، خلال السفر من مدينتي غازي عنتاب إلى كيليس التركيتين المجاورتين للحدود السورية، وبحوزتهم جوازات سفر مزورة"، مضيفا أن المركبة كان يستقلها رجلان، وامراة و4 أطفال، وقدم قائدها نفسه على أنه إيراني يدعى محمد رضا رضائي، وهو نفس الاسم المطابق لجواز السفر الذي يحمله، غير أنه بعد التحقيق مع المدعو رضائي اعترف بأن اسمه على جواز السفر لم يكن حقيقيا، بل كان عبدالرحمن بن يار محمد، وأنه لم يكن إيرانيا، حيث إنه ولد في مدينة تاخار بأفغانستان، وعاش في كابل مع زوجته وأبنائه، قبل أن يعزم ويتوجه لأوروبا ويطلب اللجوء السياسي لأجل الحياة الكريمة له ولأطفاله. معلومات الاستخبارات الأميركية يعقب التقرير، بأنه أصبح لدى الشرطة التركية علم كامل بحقيقة عبدالرحمن بن يار، إلا أن هنالك رواية أخرى عن وكالة الاستخبارات الأميركية" CIA "أكدت فيها أن عبدالرحمن الموقوف في غازي عنتاب، لم يكن محمد رضا رضائي، ولم يكن لاجئا إلى أوروبا حسب ادعائه، وإنما كان يدعى عبدالهادي العراقي، الذي كان في مهمة رسمية من تنظيم القاعدة الأم الأفغاني إلى العراق، من أجل بناء ولاية جديدة لها على الحدود التركية تتبع لتنظيم القاعدة الكبير. وبعد أن تم اعتقال عبدالهادي، اعتبرت مهمة تنظيم القاعدة قد فشلت، وأن القاعدة قد خسرت أحد أبرز قياداته، من أجل إنشاء نقطة ارتكاز وتحكم لها على الأراضي التركية باتجاه العراق ثم سورية. من هو عبدالهادي؟ في عام 1998، سطع نجم عبدالهادي في تنظيم القاعدة، حيث كان يدير تجمعات التنظيم المتعددة في كابل، وكان من بين 6 أسماء عربية يديرون لجنة حوارات طالبان العربية. ومع توسع حركة طالبان في استعادة الأراضي الأفغانية، وضع عبدالهادي سريعا خبراته العسكرية في العمل حتى أصبح قائد كتيبة "الأنصار" المتطرفة التي حاربت إلى جانب طالبان. غير أنه في يونيو عام 2001، أصبح عبدالهادي من بين 10 أعضاء في لجنة تنظيم القاعدة الاستشارية التي كانت تتبع لأسامة بن لادن. وبعد أحداث سبتمبر وسقوط طالبان، عُين عبدالهادي قائدا لشمال أفغانستان. لكن المفاجأة كانت في أن عبدالهادي استطاع أن ينقل المعارك الإستراتيجية للقاعدة في العراق، حيث إنه قبل أحداث 11 سبتمبر2001 في الولاياتالمتحدة، كان لديه تواصل جيد مع أهالي الموصل، فضلا عن أنه لعب دورا مهما في إلهام أبومصعب الزرقاوي الأردني الجنسية، الذي يعد الأب الروحي لتنظيم داعش. كما نجح عبدالهادي في دعم الزرقاوي بعدما مكنه من تحويل عملياته من أفغانستان إلى العراق بعد 11 سبتمبر، خاصة بعد تأسيس كتيبة "الأنصار" التي كانت عملياتها مشابهة تماما للخبرات والتدريبات التي تلقاها عبدالهادي خلال عمله في الجيش العراقي. ويرى محللون، أن تحركات داعش الحالية هي مشابهة لتكتيكات الجيش العراقي السابق، الأمر الذي يدل على أن من يقودون الدواعش هم قيادات سابقة في حزب البعث العراقي المنحل. بالإضافة إلى أن عقيدة الجيش العراقي تجلت في عمليات تنظيم القاعدة، ليس لأن صدام حسين كان يدعم مثل هذه المجموعات، وإنما الرجل الذي يقود العمليات العسكرية في تنظيم القاعدة، خدم في الجيش العراقي لمدة طويلة، ثم انشق وانضم إلى هذه المجموعات المتطرفة. امتعاض القاعدة تجاه الزرقاوي ذكر التقرير أنه في يوليو 2005، أرسل الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري، رسالة تحذير إلى الزرقاوي، يحذره فيها من تخويف العراقيين، وأن يتجنب مشاهد الذبح، الأمر الذي لم يعجب الزرقاوي، وانقطعت الاتصالات بينهما، ونشأت أزمة حقيقية، خصوصا بعد التفجير الذي تبناه الزرقاوي في 3 فنادق بالعاصمة الأردنية عمان، وسقط على إثر ذلك 60 قتيلا. وأضاف التقرير "إن القائد العسكري لتنظيم القاعدة بإيران عطية عبدالرحمن كتب حينها رسالة مفادها أن القيادة العامة لتنظيم القاعدة مستاءة جدا، وتترجم غضبها بأنها هي من يجب أن يهيمن على العمليات العسكرية، مبلغا الزرقاوي بأنه يجب عليه أن يوقف كل عملياته خارج العراق. الانفصال عن التنظيم الأم عقب التقرير أنه في يناير 2006، أنشأ الزرقاوي مجموعة جديدة سميت ب"مجلس شورى المجاهدين"، والتي كانت بمثابة مهدئ لقلق القاعدة المتنامي، ثم تمت مبايعته أميرا على الجماعة. ولم تضم إليها الحركة المتطرفة الثانية في العراق المسماة "بأنصار السنة"، والتي لها جذور كردية وليست علاقتها جيدة بالزرقاوي. وفيما حاول تنظيم القاعدة لم شمل الحركات المقاتلة تحت راية واحدة، فضل الزرقاوي تهميش حركة "أنصار السنة". وكتب الظواهري رسالة بعد ذلك ل"أنصار السنة"، مفادها أن التنظيم الأم يريد لم شمل "أنصار السنة" مع تنظيم قاعدة العراق، داعيا جميع الحركات إلى نبذ جميع العقبات والتوحد، إلا أنه من بين عقبات التوحد كان الزرقاوي نفسه. وفي يونيو 2006، قتل الزرقاوي إثر غارة أميركية، وتم استبداله بشخص يدعى أبوحمزة المهاجر، وعلى الرغم من أن أبو حمزة له علاقات قوية بتنظيم القاعدة، إلا أنه واصل عزل قاعدة العراق عن التنظيم الأم. فقدان التواصل في أكتوبر 2006، أعلن مجلس "شورى المجاهدين" أن جميع الجماعات المنضوية تحته تم حلها وضمها إلى حركة جديدة في العراق، وذلك قبل فترة طويلة من اندلاع الصراع السوري وإعلان داعش قيامها، الأمر الذي أصاب قيادة تنظيم القاعدة بالصدمة، بسبب أنها لم تستشر في ذلك، كما تواصل تشتيت الحركات المتطرفة، واستمر عزل "أنصار السنة" التي لم تنضو تحت التنظيم العراقي حتى بعد موت الزرقاوي. وحينما أرسلت القاعدة عبدالهادي العراقي على أطراف الحدود التركية، من أجل تشجيعه لإعادة الأمور إلى نصابها في العراق وتوحيد الحركات تحت مظلة القاعدة الأم، تم إيقافه في غازي عنتاب بعد يوم من إعلان دولة العراق الإسلامية. وبعد ذلك التوقيف، لم يعد لتنظيم القاعدة أية سلطة للإمساك بزمام أمور المقاتلين في العراق، والتركات التي أنشأها الزرقاوي زادت وخرجت على نطاقها. بداية تشتت القاعدة أبان التقرير، أن دولة الخلافة المزعومة لم تكن ليعلن عنها إلا في عام 2014، ولم تكن تلك المجموعة هي التي أنشأت تنظيم داعش، بل إنه بعد يوم واحد من اعتقال عبدالهادي، أعلن داعش أن مهمته إعادة السيطرة على العراق، وحكمها من جديد، وأشار التقرير إلى أن قيادة تنظيم القاعدة، كانت مختبئة في جحور القبائل الأفغانية حينها، ولم تتم استشارتها مطلقا، بحيث إن إعلان داعش في العراق وقتها، اعتُبر بمثابة تعدّ على سلطات تنظيم القاعدة الأم، وخلاف واضح بينها وبين التنظيم الداعشي البادئ بالنشوء. وبالمجمل، أوضح التقرير القصة الحقيقية وراء العلاقة القديمة بين تنظيم القاعدة وبين المنظمة المتطرفة التي ستكون بعد ذلك تنظيم داعش، بحيث إن الفراق بين المنظمتين المتطرفتين، مر بعدة نواح وأزمنة مختلفة. كبح داعش لفت التقرير، إلى أن قلق عبدالهادي كان في محله، حيث إن إستراتيجية الزرقاوي الدموية الوحشية كان يمكن إحجامها لولا صعوبة التواصل معه وبعد الجغرافية، بحكم أنه لم يكن يعلم الصورة الحقيقية للعراق حينها. ومن حسن حظ عبدالهادي، أنه كان هنالك أعضاء في القاعدة جاهزون للذهاب إلى العراق للقتال، بسبب أنه كان يريد أخذ فكرة واضحة عما يجري هناك، وبالتالي سيكون نفوذه على الزرقاوي كبيرا. إلا أن الرزقاوي كان يمتلك إستراتيجية مستقلة، ورفض طلب عبدالهادي له بعد تلكؤ، بحجة أن العمليات القتالية في العراق تختلف تماما عما هي في أفغانستان. وفي أكتوبر 2004، بايع الزرقاوي بن لادن، ومنذ تلك اللحظة، نشأت القاعدة في العراق، وإستراتيجية الدم والطائفية التي حذر منها عبدالهادي العراقي استمرت، مثل ما استمرت محاولات القاعدة الحثيثة للسيطرة على الزرقاوي.
بداية التغلغل في سورية قال التقرير، إنه بالنسبة لتنظيم القاعدة، فقد استطاع إيفاد قادة له إلى النزاع السوري، وأنشؤوا مسمى جديدا باسم "جماعة خراسان"، وعلى خطى عبدالهادي، حاول أولئك القادة أن ينشئوا جسورا مع التنظيم العراقي، لكنهم واجهوا تنديدات كثيرة من الحركات الموالية للقاعدة على غرار جبهة فتح الشام "النصرة سابقا"، وأحرار الشام. وعلى عكس الظروف العراقية، تغاضت القوى العظمى عن حرية تحركات قادة القاعدة في سورية، وأصبح على إثرها قادة جماعة خراسان، متمكنين من الدخول إلى سورية بكل سهولة وإنشاء مصداقية لهم، بسبب معارضتهم الشديدة لداعش، وانزلقوا مع الموالين للزرقاوي الذين يتمتعون بشعبية، في حروب دموية وشرسة. وأشار التقرير، إلى أنه على الرغم من رفض قادة التنظيمات المتطرفة على مدار 4 عقود، بناء شبكة هرمية سياسية ودينية في الشرق الأوسط وما جاوره، إلا أن حركة الزرقاويين نشأت لرفض مؤسسات الحركات المتطرفة بمختلف أنواعها. وخلص التقرير، إلى أن مهمة عبدالهادي في العراق انتهت حينها عندما اعتقل في غازي عنتاب، إلا أن حملات تنظيم القاعدة الرامية إلى السيطرة على التطرف العالمي، بدأت فعليا منذ نهاية الزرقاوي، ومازالت في طريقها إلى التوريث.