بعد مباراة ملاكمة عنيفة، سئل بطل العالم الأسبق "إيفاندر هوليفيلد" عن بعض اللكمات المؤلمة التي تعرض لها، فقال:" الألم ليس مشكلة، بل إن الخطر الحقيقي هو أن تفقد الإحساس بالألم". ولا تنطبق نصيحة "هوليفيلد" على حالة محددة اليوم، قدر انطباقها على "تعقيد" الأزمة السورية الراهنة، فالخطورة مع دخول السياسة في العالم، ما يعرف "بالسبات الانتخابي الأميركي" انتظارا ليناير المقبل 2017، ليس في تبلد مشاعر المجتمع الدولي تجاه الوضع المأسوي في سورية، ولكن في عدم الاستجابة الصحيحة لهذه المرحلة المأزومة.
أخطاء أوباما ما يجري في سورية هو نموذج لمجمل مشكلات الشرق الأوسط على مدى 60 عاما سابقة، من قهر الأنظمة الاستبدادية لشعوبها، والبعض ينظر إلى المأساة على أنها خطأ أميركا التي لم تتدخل ولم تقص الأسد عسكريا، بينما لا ينظر هذا البعض فيما يتعين عليه أن يقوم به باعتباره عملا عسيرا جدا. لكن "تقييم" سياسات أوباما الخارجية، كما يشير المحلل السياسي الأميركي، بول بيلار، يكشف أنها ركزت بقدر أكبر على الدبلوماسية، مع عدم استخدام القدر الكافي من القوة في الخارج. وباستثناء الاتفاق النووي مع إيران وإعادة العلاقات مع كوبا وفيتنام، فإن أوباما "لا يملك إستراتيجية واضحة" لقضايا الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب. ويؤكد بيلار أن سياسة أوباما استندت إلى نظرة واقعية تتجنب القيام بأعمال عنترية تورط الولاياتالمتحدة في حروب جديدة في الخارج، لا سيما أنه عارض الحرب علي العراق عام 2003 وبنى برنامجه الانتخابي على سحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان. لكن خطأ أوباما لم يكن كما يقول في التدخل العسكري في ليبيا، وإنما في إرسال إشارات خاطئة للحلفاء العرب بالنسبة للأزمة السورية، وبخاصة بعد استخدام نظام بشار الأسد للكيماوي الذي اعتبره خطا أحمر، وترديد عبارة "يجب على الأسد أن يرحل"، ولم ينفذ في النهاية وعوده، مما عقد الأمور على الأرض وسمح لقوى أخرى مثل روسيا بالتدخل العسكري في سورية حيث استعاد الأسد توازنه من تحت الضربات الجوية الروسية.
تحولات جيوسياسية يوضح النظر إلى الأزمة السورية من منظور إستراتيجي أوسع الكثير من الأمور، وذلك أن انهيار معظم الدول المركزية في الشرق الأوسط منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وحتي اليوم، وظهور لاعبين جدد خارج سيطرة الدولة "في العراق وليبيا وسورية ولبنان واليمن" أفرز معادلة جديدة في المنطقة وأدى – في العمق- إلى تحويل بعض الدول من خانة "لاعب إقليمي" إلى "ملعب" في الإقليم تتصارع عليه قوى محلية وإقليمية ودولية، فضلا عن الميليشيات المسلحة الخارجة عن سيطرة الجميع. وتمثل الأزمة السورية حالة نموذجية تجمع على أراضيها جل مشكلات المنطقة والعالم: صراعات بين القوى الإقليمية والدولية وصراعات أخرى محلية تختلط فيها الحروب الأهلية بالمعارك الطائفية والحروب بالوكالة، في ظل وجود نظام ديكتاتوري قمعي يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وقتل أكثر من 400 ألف نسمة وهجّر 12 مليون لاجئ في خمس سنوات. وتكمن خطورة الأزمة السورية في مطلع الألفية الثالثة أنها ليست حربا بين طرفين أو جيشين تقليديين، يفرض من ينتصر فيها شروطه علي الآخر، أو من الممكن أن يتملك الإنهاك الجميع ليصبح المخرج الوحيد هو التوصل إلى تسوية ما، وإنما هي أزمة تتداخل فيها الحروب غير المتكافئة وغير التقليدية، فضلا عن اختلاف الأهداف بين القوى المتصارعة والمتحالفة أيضا سواء في الوسائل أو الغايات، مما يصعب وضع نهاية قريبة أو سريعة لها. وإذا كانت الولاياتالمتحدة والغرب لا يريدان التورط في صراعات الشرق الأوسط إلا بالقدر الذي يحمي مصالحها، ومنها احتواء التهديدات الخطيرة في المنطقة، مثل: النووي الإيراني، فإن إرادة أوباما هي: منع الأمور من التدهور أكثر في الشرق الأوسط، دون أن يمتد طموحه لتحسين الأوضاع على الأرض أو حل مشكلات المنطقة.
إسقاط الشريك مشكلة أوباما مع الأزمة السورية– كما يقول ليمون– تمحورت بين الدعوة لإسقاط الأسد والعمل معه بصفته شريكا، بما في ذلك الاتفاق حول الأسلحة الكيماوية بتوسط روسيا قبل ثلاثة أعوام. وبينما ازداد نظام بشار شراسة منذ ذلك التاريخ، كانت الولاياتالمتحدة وأوروبا تريان أن التهديد الأكثر إلحاحا في سورية قادم من الإرهابيين الذين يقاتلون ضد الأسد، وبخاصة مع ظهور تنظيم داعش، وإعلانه الخلافة المزعومة عام 2014، ومن ثم فإن رحيل الأسد– من وجهة نظر إدارة أوباما- سوف يزيد من خطر الإرهاب في المنطقة كلها، بينما بقاء الأسد والتعاون معه في تأمين طيران التحالف ضد داعش ضمانة أساسية في الحرب على المتطرفين. وهكذا أصبح "الحل السياسي" في سورية نقطة خلاف أساسية بين الولاياتالمتحدة والحلفاء السنة، وخصوصا دول الخليج العربي وتركيا بالإضافة إلى إسرائيل. ومن وجهة نظر الحلفاء في الشرق الأوسط، سيؤدي سقوط نظام الأسد في سورية إلى تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف المتصارعة على الأرض، وهو بمنزلة ضربة قاضية لإيران؛ فما يجمع بين نظام الأسد المدعوم من إيران وحزب الله - والميليشيات الشيعية الأخرى- أن كليهما يقتل شعبه بدم بارد ويقوض استقرار المنطقة. ومن المعروف أن نظام بشار وإيران استخدما "حزب الله" دائما لتقويض استقلال لبنان أولا وتعريض استقراره للخطر، وتأجيج التوترات المذهبية بما يساعد على تثبيت سلطة دمشقوطهران على لبنان، فضلا عن الإخلال باستقرار المنطقة كليا، وهكذا أصبح ما يجري على الأرض في سورية يغير بشكل جذري حسابات مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين في المنطقة.
تخبط السياسات في يناير الماضي، أصدر مجلس العلاقات الخارجية الأميركية تقريرا بعنوان" الأولويات الوقائية للولايات المتحدة في العام 2016 "، أشار إلى أن هناك 11 أولوية شديدة الخطورة علي الأمن القومي الأميركي، منها ثماني أولويات في الشرق الأوسط وحده، وعلى رأسها الأزمة السورية. ويبدو أن تخبط صناعة السياسة الأميركية حال دون الالتفات إلى هذه الأولوية الأولى حتى الآن ربما لغياب إستراتيجية شاملة للتعامل مع القضايا العالمية الملحة، وليس فقط قضايا الشرق الأوسط، ومنها الأزمة السورية والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، فضلا عن مشكلة الإرهاب العالمي. ويرى معظم الإستراتيجيين وقادة الرأي في واشنطن أن الولاياتالمتحدة لا تتحمل أدني مسؤولية عن الأزمة السورية الحالية، بعكس الوضع بالنسبة إلى العراق ما بعد الغزو الأميركي عام 2003 وحتى اليوم، وما حدث في ليبيا منذ 2012 إلى الآن، حيث يؤكد الجميع علي مسؤولية أميركا في تردي الأوضاع وانهيار هذه الدول. ويعزو المحلل السياسي، توماس فريدمان، ما سماه فتور أوباما وعدم رغبته في الانخراط في ما يجري هناك، أن الولاياتالمتحدة لم تبدأ الأزمة السورية، مستدركا أن واشنطن يجب أن تنظر للأزمة من منظور إستراتيجي أوسع وليس فقط من منظور أخلاقي، وقال: "لقد أنهكت هذه الأزمة حلفاء أميركا في الشرق الأوسط وجلبت الاضطرابات التي ستظهر نتائجها لاحقا في الحليف الأوروبي، ومن ثم فإن علي الرئيس "أو الرئيسة " القادم العمل مع القوي الإقليمية على إعادة بناء الدولة السورية.
مبدأ أيزنهاور هناك أمر آخر أظهر الرئيس أوباما وسياساته في صورة المتردد والمرتبك، وهو اتباعه مبدأ ليس جديدا في السياسة الخارجية الأميركية لكنه قلما اتبعه قادة أميركا عبر تاريخها الطويل، وهو: عدم التدخل عسكريا في الدول الأخرى (من جانب واحد إذا لزم الأمر)، إلا عند تهديد أمنها القومي بصورة مباشرة وعاجلة، فضلا عن حلفائها. وارتأت إدارة أوباما أن الأزمة السورية منذ البداية لا تشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي، وأن التدخل العسكري في عام 2013 هو تكرار لأخطاء العراق عام 2003 حيث إن احتمالات النجاح قليلة، ناهيك عن تزايد الأعداء الجدد. وحسب مبدأ الرئيس الأميركي الأسبق "ايزنهاور" في الخمسينيات من القرن العشرين، فإن التدخل العسكري في الصراعات الطائفية والعرقية والقومية يولد المزيد من السخط ضد الولاياتالمتحدة على مدى أجيال طويلة، والشرق الأوسط المضطرب هو نموذج لهذه الصراعات اليوم. ويشدد الزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية،"غايل ليمون"، على أن خيارات أوباما بالنسبة للأزمة السورية – منذ البداية - كانت محدودة للغاية، حيث أكد باستمرار أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة السورية بينما كانت الحرب الأهلية تزداد دموية عاما بعد آخر. وظل شبح الغزو الأميركي للعراق يخيم على إدارة أوباما منذ خمس سنوات، بالإضافة إلى عدم قدرة الولاياتالمتحدة علي تحمل الدخول في حرب أهلية جديدة في الشرق الأوسط، ولهذا واجهت إدارة أوباما ضغوطا من داخل المؤسسة العسكرية ذاتها دفعتها إلى دعم المعارضة السورية ماديا وعسكريا.
ترتيبات غير معلنة كشف مسار الأحداث الأخيرة في الأزمة السورية لا سيما بعد التدخل العسكري الروسي، أن موسكو، "العدو الأول لواشنطن قبل عام 1989"، شريك رئيسي في سورية، رغم الاختلافات الجذرية بين الولاياتالمتحدةوروسيا، حيث ظهر كل من وزيري خارجية البلدين "كيري" و"لافروف" وكأنهما "سايكس – بيكو" الشرق الأوسط الجديد في القرن 21. ومن جهة أخرى، فإن ارتفاع حدة التوترات بين البلدين من أوكرانيا وحتى الصين مرورا بالدرع الصاروخي والناتو، لا يلغي أن روسيا شريك لا غنى عنه للولايات المتحدة فيما يخص المصالح الأمنية في نصف الكرة الأرضية الشمالي، إضافة إلى الحرب على الإرهاب؛ فقد أدت موسكو دورا أساسيا في الاتفاق النووي مع إيران كما أنها اضطلعت بدور الوسيط دائما في تسوية أو تعميق الأزمات الإقليمية. الأهم من ذلك، إدراك الولاياتالمتحدة أن تدخل روسيا في سورية ليس من أجل الأسد –وان استفاد الأخير من ذلك – وإنما من أجل تأمين مصالحها، وقواعدها البحرية في طرطوس وغيرها، والشيء نفسه بالنسبة لعلاقة روسيا مع طهران؛ فإذا كانت إيران النووية بعد 15 عاما مبعث قلق دول الشرق الأوسط والمجتمع الدولي فإن هذا بالضبط ما يجمع كل هذه الأطراف بموسكو؛ لأن روسيا أكثر الدول شعورا بالقلق المتزايد من إيران النووية في المنطقة، التي تتجاوز بحر قزوين والقوقاز ووسط آسيا، وتلك دلالة على أن موسكو لا تريد منافسا إقليميا لها في المنطقة. وصحيح أن التدخل العسكري الروسي في سورية كان للحفاظ على المصالح القومية لموسكو في ظل الغياب الأميركي الذي أنشأ فراغا استغله "بوتين" جيدا، فضلا عن أن الضعف العسكري الأوروبي لا يمكنه من تغيير الأوضاع في سورية، لكن هذا التدخل الروسي يشير من زاوية أخرى إلى أن هناك ترتيبات ما لم يعلن عنها حتى الآن، ربما تخص الصينوأوكرانيا والناتو على خلفية الأزمة السورية ومحاربة الإرهاب وتركيا وقضية اللاجئين.
صراع طويل لم تخرج الحلول المطروحة للخروج من دوامة الأزمة السورية، عمليا عن فكرة الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلنطي " الناتو، اندرس فوج راسموسن، بشأن ضرورة إيجاد حل على غرار "النموذج البوسني" أي "التقسيم "، وهي فكرة – رغم محاولات التنصل منها– ما زالت قابلة للاختبار والتجريب، وتأكد ذلك أخيرا من الدعم الأميركي الصريح لأكراد سورية. وإذا كانت فكرة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي طرحها عام 2007 بشأن إقامة ثلاث فيدراليات: كردية وسنية وشيعية، تشير إلى استحالة عودة الأوضاع في العراق إلى ما كانت عليه قبل عام 2003، فإن الشيء نفسه ينطبق علي سورية؛ إذ أصبح من الصعب عودتها إلى حالها قبل عام 2011. وعلى الصعيد ذاته، يرجح راسموسن تقسيم سورية على أسس مذهبية وطائفية وعرقية، بينما يؤشر إلى أن الرابح الأكبر سيكون هم "الأكراد ". ولا يعني تحرير شمال سورية والموصل من "داعش "، إعادتهما إلى سورية والعراق مرة أخرى، حسب معظم المحللين في واشنطن، وإنما ذلك تمهيد لتأسيس دولة " كردية" مستقلة، رغم التصريحات الغربية التي تحاول نفي ذلك. ويعد الأكراد بشمال سورية والعراق أكثر المقاتلين فاعلية في محاربة داعش، ولديهم تأييد يصل إلى حد الإعجاب في المجتمع الدولي اليوم، لكن هذه الطموحات الكردية والدولية تصطدم مع الحليف التركي عضو حلف شمال الأطلنطي "الناتو" وتعقد معادلات المنطقة من جديد. في واحدة من اللمحات الذكية لمدير مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، ريتشارد هاس ، أشار إلى أن صناع السياسات في العالم لهم حدود لا يمكن أن يتخطوها، وبالنسبة إلى الشرق الأوسط- حسب قوله- فإن المنطقة تشهد الآن المرحلة المبكرة من صراع طويل ومكثف؛ لأنها مهيأة لجميع أنواع الاضطرابات، وإلى أن ينشأ نظام محلي جديد، أو يتمكن الإرهاق من الأطراف كافة، سوف يظل الشرق الأوسط أقرب إلى حالة مستعصية لا بد من تدبرها وإدارتها بحكمة، أكثر من كونها مشكلة يجب حلها.