لا تحتاج خريطة الصراع في المنطقة إلى وضوح، لا تحتاج إلى مزيد من الخطوط لبيان الحدود والمواقع، فالاصطفاف على أشده، بلغ حد السيف أو شفير الهاوية، كأن لا مكان لتسويات وصفقات، والربيع العربي ساحة من ساحات المواجهة المفتوحة كلَّ يوم على مفاجآت وتداعيات سيكون لها موقعها في رسم خطوط النظام الإقليمي والدولي الذي يتشكل. الصراع على أشده في مواجهة «حلف الممانعة»، من بيروت إلى دمشق وبغداد وحتى طهران وكابول، وهو جزء مما يدور بين الكبار في الساحات الأبعد، من أقصى الشرق إلى أفريقيا مروراً بآسيا الوسطى، ولا مبالغة في أن يقول مناصرو النظامين الإيراني والسوري وحلفاؤهما في لبنان والعراق إن ثمة «مؤامرة» أو مشاريع أجنبية لإسقاط هذا الحلف بمعارك داخلية وخارجية، وبشتى الأسلحة المتاحة، ولكن ثمة مبالغة أو تبسيط في نعت الحراك الشعبي في سورية وغيرها من البلدان العربية بأنه «أداة» من أدوات هذه المشاريع. لا جدال في المنطلقات الداخلية لهذا الحراك، المتطلع إلى استعادة الكرامة والحرية والعدالة وحكم القانون وإنهاء التسلط والفساد، ولا جدال تالياً في أن يتوسل المتصارعون الكبار، الدوليون والإقليميون، الحراكَ إياه سلاحاً ضاغطاً في المواجهة المتصاعدة بينهم. حدة الاصطفاف شارفت نقطة الانفجار: حلفاء دمشق وخصومها، من روسيا والصين إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا، مروراً بتركيا، يحذِّرون من انزلاق الأزمة السورية إلى حرب أهلية، وتوجِّه جامعة الدول العربية الإنذار تلو الآخر إلى دمشق وتمهلها ولا تهملها بمواقيت تضيق كل يوم، وتلوح بعقوبات وبحصار وعزلة... والخصوم أنفسهم، خصوم إيران، من إسرائيل إلى الولاياتالمتحدة ومعظم العرب، يحذِّرون: «خيار الحرب على الطاولة» إذا لم ترضخ الجمهورية الإسلامية لموجبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومتطلباتها وقواعدها، ويحاصر طهران التحرك في الأممالمتحدة على خلفية كشف واشنطن مخططاً لاغتيال سفير المملكة العربية السعودية لدى العاصمة الأميركية، ويحاصرها كشف قطر والبحرين خلية تدعمها تخطط لتفجيرات واغتيالات في المنامة وغيرها. ولا حاجة إلى شرح ما يجري في كل من بيروت وبغداد، كونه صدى لهذا الصراع المحتدم وساحتين رديفتين للمواجهة، وربما لتنفيس الاحتقان، وإذا اقتضت الضرورة جسِّ النبض وكشفِ مدى الاستعداد للذهاب بعيداً في لعبة حافة الهاوية، فلا يستهان بما قد يواجه لبنان على خلفية الجدل الدائر في موضوع تمويل المحكمة... وبدء أعمالها وما قد تشكله من ضغوط على «حزب الله» والحكومة التي يرعى أو يقود. كما لا يُستهان بتداعيات وقوف هذه الحكومة بلا تبصر إلى جانب النظام في دمشق. ولا يَخفى مدى القلق الذي ينتاب العراقيين من قرب الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من بلادهم، فيما تستعجل محافظات الغرب والوسط السنية تحولها أقاليم هي أقرب إلى كيانات جاهزة للانفصال إذا استدعت الظروف والتطورات، فيما الحكومة، التي لا تجد مناصاً ومفراً من دعم دمشق، تواصل حملة ملاحقة من تسميهم فلول البعث خوفاً من انبعاث شبح «الحرب الأهلية» التي تلت سقوط نظام صدام حسين قبل سنوات، وخوفاً من تواصُل المحافظات إياها مع نظام جديد متعاطف معها مذهبياً قد يخلف نظام الأسد. هذا القلق حيال محافظات الغرب والوسط ينتاب الولاياتالمتحدة بعد سحب قواتها، وهي تخشى تمدد نفوذ طهران من بغداد إلى عمق هذه المحافظات، من هنا ضغوطها على دمشق وتصعيد مواقفها من نظام الرئيس الأسد، فهي تريد ضمان محاصرة النفوذ الإيراني كي لا يتعدى حدوده العراقية، بل تريد من رحيل النظام إقامة طوق حول أرض الرافدين يُكمل فكي الكماشة على الجمهورية مع جيران العراق جنوباً وغرباً، من الأردن إلى الكويت والسعودية. ويرى معارضو نظام الرئيس الأسد أن الغرب والعرب أيضاً تأخروا كثيراً عن «المشاركة في المواجهة»، بحيث مر وقت طويل على الأزمة السورية، وأعطي النظام أكثر من فرصة ومهلة، وقُدمت إليه مبادرات وإغراءات، قدمتها قطر والإمارات والسعودية وتركيا وفرنسا وغيرها، وهو ما أكد بعضه وزير الخارجية السوري وليد المعلم أخيراً، وأجريت عبثاً أكثر من محاولة مع دمشق لإبعادها عن طهران، ولوقف الخيار الأمني والتوجه نحو التفاوض والحوار مع أطياف المعارضة، وقيل الكثير في تبرير عدم طواعية أركان النظام، أو عدم قابليته للإصلاح. لذلك، وبعيداً من الأسباب الداخلية للحراك في سورية -وهي الأساس-، توكأ اللاعبون في المنطقة على هذا الحراك، فتحول سلاحاً من أسلحة المواجهة الأوسع في هذا الصراع على رسم معالم النظامين الإقليمي والدولي. لذلك، يسهل على حلفاء سورية اليوم التشبث برواية «المؤامرة» التي تستهدفها، ويمكنهم إسناد ذلك إلى ما طُلب من دمشق باكراً -قبل الربيع العربي- ولكن بلا جدوى، أن تعود خطوات إلى الوراء في علاقاتها مع إيران، وتوازن مواقفها وتعيد تموضعها في الإقليم. لا يعني هذا توكيداً لصحة الرواية عن «المؤامرة»، فما تشهده سورية لا يختلف عما جرى في تونس ومصر ثم في اليمن وليبيا وأماكن أخرى من العالم العربي، ومحاولة اختصار الربيع العربي وردِّه إلى أيدٍ تريد إعادة تقسيم المنطقة، أو رده إلى مشاريع ورغبات استعمارية دفينة... إلى آخر هذه المعزوفة، فيهما تجنٍّ على هؤلاء الناس العاديين والبسطاء الذين خرجوا ويخرجون كل يوم إلى الشوراع مطالبين بالكرامة والحرية والعدالة، وفيهما نأي لن يجدي عن الاعتراف بالمشكلة الحقيقية. من الطبيعي أن يفتح الحراك العربي شهية الجميع، قريبين من التدخل أو بعيدين، وليس مستغرباً أن تهب الولاياتالمتحدة وأوروبا، وكذلك روسيا والصين وإيران وتركيا ودول الجامعة، لحماية مصالحها أو تعزيز هذه المصالح، وليس مستغرباً أن تقدم هذه الدول وغيرها من دول إقليمية كبيرة، شتى أنواع المساعدة إلى نظام الرئيس الأسد، وأن تمد أطراف أخرى المعارضة بالعون والدعم. إنه رهان على مستقبل الوضع في المنطقة برمتها، وسباق على تثبيت المصالح وجني المزيد من المكاسب، فهل يصح الحديث عن «مؤامرة» طرف واحد دون آخر؟! المواجهة المفتوحة مع إيران وسورية وحلفائهما جبهة في جبهات عدة، ففي الشرق الأقصى البعيد يستعر الصراع بين الصين والولاياتالمتحدة، ويأتي لقاء الرئيس باراك أوباما مع رئيس الوزراء وين جياباو (في بالي الأندونسية) في إطار المساعي للتفاهم على كثير من ملفات الخلاف بين الطرفين: بكين ترفض أي تدخل أميركي في خلافاتها الحدودية مع الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي، وأثار ويثير غضبها تعزيز الولاياتالمتحدة وجودها العسكري شمال استراليا، فضلاً عن دعمها تايوان، وسعيها إلى معاهدة تجارية تجمع بلدان منطقة المحيط الهادئ وتستبعد الصين، المتهمة بفرض هيمنتها على الإقليم. وأسلحة المواجهة بين بكينوواشنطن تطول وتطول: خبراء اللجنة الاقتصادية والامنية لمجلس الشيوخ الأميركي أكدوا في تقرير سنوي للكونغرس قبل أيام أن الصين تنسف جهود المجتمع الدولي الرامية إلى منع إيران وكوريا الشمالية من مواصلة برامجهما النووية، وأنها من مزودي الجمهورية الإسلامية «الرئيسيين» بالمواد النفطية المكررة، وكذلك بالأسلحة، ومن بينها الصواريخ العابرة، ويتهمها المسؤولون الاميركيون بعدم إعادة تقويم عملتها تقويماً صحيحاً والسماح بسرقة الملكية الفكرية الاميركية، وكانت هيلاري كلينتون حذرت قبل أشهر من لوساكا، القارةَ الأفريقية من «الاستعمار الجديد»، مع توسيع الصين ساحة تجارتها وصناعاتها، في المحصلة تدرك واشنطن أن تحالفاتها مع دول المنطقة قد لا تحد من قدرة التنين الصيني على بسط نفوذه في فضائه وفنائه الإقليميين، من منطقة بحر الصين إلى منطقة المحيط الهندي، وإذا كان لا بد من تسوية وتفاهم بين هذين الكبيرين، فإن الشرق الأوسط الذي يحتل موقعاً مهماً في الإستراتيجية الأميركية يظل في حسابات بكين أقل أهمية وحيوية من شرق آسيا اقتصادياً وعسكرياً. أما على جبهة روسيا، فيعني بقاء الثنائي بوتين-ميدفيديف في الكرملين، مواصلةَ الحوار المتوتر بين موسكووواشنطن بخصوص جملة من السياسات: توسيع عضوية حلف الناتو واقترابه من أبواب روسيا، والدرع الصاروخية في أوروبا وتركيا، ومشكلة جورجيا، التي لا يزال نارها تحت رماد أبخازيا وأوسيتيا، وإذا كانت روسيا تشعر بحاجة واشنطن إليها في مواجهة الملف النووي الإيراني وفي قضية أفغانستان، وأنها تفيد من متاعب غريمتها في كل من العراق وأفغانستان، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعانيها... فإن روسيا نفسها ليست بمنأى عن الأزمة الاقتصادية وتحتاج إلى شركائها الأوروبيين، وتدرك أن ضعف المارد الأميركي في النهاية لا يصب في مصلحتها، فالصين الصاعدة تحدٍّ كبيرٌ لها في الشرق الأقصى وآسيا الوسطى، فضلاً عن أفريقيا. في هذه الجبهة المفتوحة في العالم العربي، عبرت إدارة أوباما بوضوح أنها مع الربيع العربي، بخلاف روسيا والصين، اللتين عبّرتا عن مخاوف من تحول النظم في المنطقة نحو النموذج الغربي في الديموقراطية، وهما بلدان يتلقيان كل يوم اتهامات بانتهاكات حقوق الانسان ويخشيان «عدوى الربيع»، فضلاً عن مخاوفهما من صعود التيارات الاسلامية في الشرق الأوسط، في حين تواجهان معضلات مع الأقلية الإسلامية في ساحاتهما وعلى حدودهما. وإذا كان المعنيون بالحراك السوري أبدوا رغبة في التريث في البدايات، لعل المبادرات والمناشدات وربما المفاوضات تثمر صفقة أو تسوية، يجدون أنفسهم اليوم أمام أبواب مقفلة، من هنا التقدم العربي والتركي والغربي نحو إسقاط النظام في دمشق، مصحوباً بحملة واسعة على إيران، وإذا نجح هذا التقدم في كسر الحلقة السورية «الممانعة» بلا زلازل جانبية، ستميل كفة الميزان لمصلحة الربيع العربي و «جيش» الداعمين والمؤيدين، وعندها قد تنتفي الحاجة إلى مواجهة عسكرية واسعة... إلا إذا أدى الزلزال السوري إلى حرب لا يريدها المتصارعون.