على رغم الانتقادات التي وجّهت إلى إدارة الرئيس باراك أوباما حول السياسة المعتمدة في سورية، ليس لواشنطن مصالح حقيقية في سورية لتخاطر بالتدخل العسكري فيها، ولا حلفاء أكيدون يمكن الاعتماد عليهم. وما زال النقاش الذي يدور حول ما إذا كانت المسؤولية عن الكارثة السورية تقع على عاتق الولاياتالمتحدة الأميركية. فقد طاولت الانتقادات الإدارات الأميركية بسبب سياستها في سورية. والحال أن الذين يدعمون النظام في دمشق يعتبرون أن الولاياتالمتحدة هي المسؤولة الكبرى عن الفوضى في الشرق الأوسط. وهم يرون أن الأزمة السورية ليست سوى نتيجة التدخل الإمبريالي في الشرق الأوسط وإرادة واشنطن في تسليح الثورة. ويوافق العديد في الغرب على هذا التحليل ويحتشد مؤيدو السلام ومعارضو العمل العسكري في أوروبا وأميركا في كل مرة تتدخل هذه الأخيرة في سورية. والمشكلة في مثل هذه المقاربة أن سورية في عام 2011، ليست العراق في عام 2003. وبدأ النزاع في سورية نتيجة أسباب داخلية، إذ إن نظام الأسد الحاكم منذ 1970 واجه ثورة شعبية، على عكس العراق حيث واجه نظام صدام حسين غزو القوات الأميركية، وهزم على يديها. كما أن المسؤولين في واشنطن ليسوا أنفسهم: فقد غزي العراق على يد الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش الجمهوري، ومسؤولين من المحافظين الجدد بهدف إعادة هيكلة الشرق الأوسط حول العراق وموارده النفطية. إلا أن الانفجار السوري حصل في ظل نظام باراك أوباما وتعهد سحب القوات الأميركية من العراق ومن أفغانستان، وإرساء علاقات جيدة مع العالم الإسلامي، وحل الأزمات الدولية من خلال مقاربات متعددة البعد. وبمعنى آخر، فإن المسؤولين في واشنطن ليس لديهم أي أجندة أو مصلحة للتدخل في سورية. من جهة أخرى، تنتقد المعارضة السورية ومناصروها الولاياتالمتحدة الأميركية وغياب التدخل العسكري كما ينتقدون إدارة أوباما. فبالنسبة إلى المعارضة كان بإمكان الولاياتالمتحدة التدخل للحؤول دون استهداف الجيش السوري المناطق التي سيطرت عليها المعارضة من خلال فرض حظر جوي كما فعلت في حرب الخليج الأولى. وفي أفضل الأحوال، كان بإمكان الجيش الأميركي التدخل لإطاحة النظام البعثي. إلا أن واشنطن لم تنفك تردد أنها لن تتدخل عسكرياً ولن تفرض حظراً جوياً. فكرة الحظر الجوي هي بالأساس فكرة أنقرة لحماية المدنيين في المناطق السورية الشمالية وإعطاء تركيا إذناً للقيام بتدخل عسكري بدعم من القوات الأميركية وال «ناتو». وكان من شأن الحظر أيضاً أن يوفر غطاءً جوياً للمجموعات المسلحة المعارضة والمجموعات التركية الحليفة تقيها من هجمات القوات الجوية السورية. غير أن القوات الأميركية عارضت بشدة فكرة الحظر الجوي لأنه كان يترتب عليها تدمير القدرة العسكرية السورية. تدهور العلاقات الأميركية - التركية تعرض التحالف التاريخي بين تركياوالولاياتالمتحدة الأميركية لهزة للمرة الأولى في 2003 عندما اجتاحت الأخيرة العراق. وفي ذلك الوقت، اعترضت أنقرة على الضربة الأميركية رغم أنها اليوم تؤيد ضربة أميركية على سورية. وكان همّ أنقرة الأكبر المسألة التركية، إذ إنها تخشى إطاحة النظام البعثي في العراق الذي قد يؤدي إلى إرساء دولة كردية. وقد رفض البرلمان التركي إعطاء الجيش الأميركي الإذن باستخدام الأراضي التركية للهجوم على العراق. وكان لهذا القرار السلبي تأثير في العمليات العسكرية الأميركية. لم تردّ الولايات المتّحدة على «خيانة» أنقرة، بالنظر إلى تردّي الأوضاع بالنسبة إلى مشروع احتلالها العراق، ما جعل إدارة بوش في حاجة ماسّة إلى تعاون تركيا. بغضّ النظر عن موقف أنقرة، احتلّ الأميركيّون العراق وأطيح صدّام حسين. وظهرت على أرض الواقع دولة كرديّة عُرفَت باسم حكومة إقليم كردستان. أمّا المفاجأة، فهي أنّه في ظرف سنوات قليلة، بدأت أنقرة ترسي علاقات إيجابيّة مع حكومة إقليم كردستان. إلا أن الاجتياح الأميركي وفشله أنشآ واقعاً جديداً في العراق، وقفت فيه الولاياتالمتحدةوتركيا في جهتين متضادتين، وبعد تفكيك الجيش العراقي، بدأ الأميركيون في العراق يتعاونون مع إيران وحلفائها في بغداد، في حين أن أنقرة راحت تعترض على تصرّفاتهم وتبدي استعدادها للتعاون حتّى مع «الدولة الإسلاميّة»، بهدف إنشاء ثقل موازن. في سورية أيضاً، سينتهي المطاف بوقوف واشنطنوأنقرة في جهتين متعارضتين. وفي الأساس، كانت الولايات المتّحدة وتركيا تتصوّران في عام 2011 أنّ دمشق مقبلة على تغيير في النظام عمّا قريب. ومع تحوّل الأزمة إلى حرب مطوّلة، بدأ الطرفان ينسّقان جهودهما مع عدد من الدول الخليجيّة لدعم انتفاضة مسلّحة. وقرّرت خليّة مؤلفة من ضباط استخبارات من الدول المعنية اتّخاذ قاعدة لها في تركيا، لتنسيق عمليات تسليم مقاتلي المعارضة الأسلحة. وضمن هذه التركيبة، حاولت الولاياتالمتحدة الترويج للثوار السوريين «المعتدلين» عبر منحهم تدريبات وأسلحة، لكنّها حاولت أيضاً وضع حدّ لتدفّق الأسلحة المتطوّرة التي أمكن أن تصل في النهاية إلى الأيادي الخاطئة. وفي هذا السياق، هل تذكرون كيف وفّرت الولايات المتّحدة صواريخ أرض - جو من طراز «ستينغر» للمجاهدين الأفغان، واضطرّت لمعاودة شرائها بعد انسحاب السوفيات؟ في الأساس، كانت الانتفاضة موجّهة من ضبّاط وجنود سوريين فارّين من الجنديّة، وشكّلوا أهمّ دعائم الجيش السوري الحر الذي اتخذ لنفسه مقرّاً في مقاطعة اسكندرون جنوبتركيا. وفي الوقت ذاته، برزت ظاهرة أخرى في مطلع عام 2012 في سياق الانتفاضة السوريّة، تمثّلت ب «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة». وبصورة متزايدة، بات الدعم اللوجيستي التركي وغيره موجّهاً إليها، ما سبّب مشاكل للقيادة الأميركية. فهل نسينا أنّ الولاياتالمتحدة كانت لا تزال في حالة حرب مع «القاعدة»، وأنّ حربها الشهيرة ضد الإرهاب كلّفت دافعي الضرائب الأميركيين تريليونات الدولارات؟ وأنّ المعارضة السورية بقيت مشلولة وعاجزة عن تحديد مكانة لنفسها بسبب ظهور عناصر من «القاعدة» في صفوفها، باستثناء أن تُطلق عليها تسمية «دعاية الأسد»؟ غير أن ارتكاب تركيا، وهي دولة ذات تقاليد، خطأ من هذا القبيل، هو أمر يتطلّب تفسيراً. فمع دعمها عناصر جهادية داخل المعارضة السورية، بما يشمل مجموعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فصلت تركيا الانتفاضة السورية عن الدعم الأميركي، ليتحقق بالتالي أكبر أذى استراتيجي تلحقه أنقرة بقوّات المعارضة السورية. تفضيل الجهاديين على الاكراد تُعتَبر المعارضة السورية في إسطنبول والقيادة التركية مسؤولتين على حد سواء عن تطوّر القوّات الجهادية داخل المجموعات المعارضة المشاركة في القتال. ولا يكفي اتّهام نظام دمشق «بإنشاء داعش»، إذ إنّ أنقرة كانت قادرة على الاختيار، ولم يكن تعزيز قوة الجهاديين بالأمر المحتّم. والواقع أنّه في كانون الثاني (يناير) 2013، أعلنت تركيا، ومعها حزب العمّال الكردستاني، وقف إطلاق النار. وأطلقا مفاوضات سياسية. فهل كانت أنقرة متردّدة حيال إحلال السلام مع الأكراد وبالتالي حيال إنشاء تحالف مع حزب العمال الكردستاني؟ مهما كان الوضع، فقد أظهرت أنقرة في عام 2014 تفضيلها الجهاديين على الميليشيات الكردية، وتجلّى الأمر في شكل خاص في معركة كوباني التي نشبت في أيلول (سبتمبر) 2014، إبّان هجوم «داعش» على هذه البلدة الكردية الاستراتيجية الواقعة على الحدود التركية. في ميادين الحرب الشرق أوسطيّة، تقف واشنطن وحليفتها السابقة في جهتين متضادتين. وهو أمر واضح للعيان في العراق، وبصورة متزايدة في سورية. ورعى البنتاغون مشاريع تدريب مقاتلين سوريين «مناهضين لداعش»، واعتمد بصورة متزايدة على الميليشيات الكردية السورية. وخير مثل على المعضلة الاستراتيجية التي تواجهها واشنطن هو توفيرها غطاء جوّياً وأسلحة متطوّرة لحزب الاتحاد الديموقراطي في سورية، في حين أنّ حزب العمّال الكردستاني يبقى مدرجاً على لائحة المنظّمات الإرهابيّة التي وضعتها الولايات المتّحدة. في عام 2015، وافقت واشنطن على تسليم روسيا الأزمة السوريّة، على حساب أنقرة. وفي آب (أغسطس) 2015، أعلنت الولايات المتّحدة أنّها ستسحب صواريخ أرض - جو التي تملكها من طراز باتريوت من جنوبتركيا. وفي أيلول، كُشف النقاب عن وجود عسكري روسي في سورية. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، أنجزت الولاياتالمتحدة، شأنها شأن ألمانيا، عمليّة سحب صواريخ باتريوت التابعة لهما، لتبقى تركيا معرّضة للأخطار. وفي الآونة الأخير، تأزّمت العلاقة بين الطرفين إلى حدّ كبير، إذ هدّدت أنقرة بإقفال مطار إنجرليك العسكري أمام الآليات العسكرية الأميركيّة، ما كان سيشير إلى نهاية حلف شمالي الأطلسي. يشير تدهور العلاقات بين الولايات المتّحدة وتركيا، والاعتماد المتزايد على القّوات المؤيّدة لإيران في العراق، وتحالف حزب الاتحاد الديموقراطي والجيش الروسي، إلى أنّه على أرض الواقع، لم يبقَ أمام واشنطن أيّ خيار استراتيجي في الشرق الأوسط، ويعزى السبب بمعظمه إلى حلفائها السابقين.