إبان زيارته الأخيرة للمملكة، في أواخر سبتمبر الماضي، أفصح وزير الدفاع البريطاني ويليام فوكس، في تصريحات صحافية إلى "الوطن"، عن قلق القيادتين السياسيتين في الرياض ولندن، من مخاوف تقسيم العراق ومستقبله، خاصة في ظل تأخر قادة المطبخ السياسي في بغداد، في تشكيل حكومة جديدة، والتأثيرات الخارجية التي تمارس في سبيل هذا التشكيل، وهي الضغوط التي كشف عن وجودها زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الأمر الذي دفع برئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي بالطلب من الرئيس السوري بشار الأسد، التوسط لدى إيران، في تخفيف ضغوطها على العراق، وفسح المجال أمام تشكيل حكومة جديدة، بإرادة داخلية بحتة، حيث أوضح علاوي إبان زيارته دمشق في 29 من سبتمبر الماضي، على أنه" طلبنا من المجتمع الدولي وعلى رأسه الولاياتالمتحدة بالإضافة إلى الدول الإقليمية أن يقفوا على مسافة واحدة من الأطراف العراقية السياسية، وأن تبتعد عن التدخل في الشأن العراقي الداخلي، لكي يتسنى للفصائل العراقية التي حملها الشعب العراقي إلى المجلس النيابي أن تجلس معا وتجد الحلول العراقية الوطنية". أسئلة ما بعد الانسحاب تسيطر تساؤلات رئيسية على عدد من الاتجاهات السياسية، وبعض المراكز البحثية العربية والغربية، حول تداعيات الانسحاب الأمريكي من العراق، في ظل اتجاه واشنطن إلى تطبيق "اتفاقية وضع القوات" التي وقعتها مع العراق في ديسمبر 2008، والتي مهدت لانسحاب بعض القوات الأمريكية المقاتلة من بغداد، في أغسطس الماضي، لينخفض بمقتضي ذلك تعداد هذه القوات من 85 ألف جندي إلى زهاء 50 ألف، يتم انسحابهم أيضا بحلول نهاية عام 2011. التساؤلات المطروحة حول مستقبل العراق ترتبط بطبيعة الأوضاع الأمنية المتدهورة هناك، وجمود الوضع السياسي، في ظل عدم قدرة الفرقاء السياسيين على التوصل إلى تسوية سياسية، من شأنها أن تنهي المخاض العسير الذي يكتنف تشكيل الحكومة، وذلك بعد أكثر من ثلاثة شهور على إجراء الانتخابات البرلمانية. الانسحاب.. دراسة جدوى وضع بلاد الرافدين ومستقبله ليس أمرا مقلقا لأهله وحسب، بل يمتد هذا القلق ليشمل محور أمن منطقة الشرق الأوسط ككل. و على الرغم من أن الكثيرين من سياسيي العراق يعلنون رغبتهم في إنهاء الاحتلال، وعودة وطنهم دولة مستقلة تحدد خياراتها الداخلية والخارجية وفق إرادتها الخاصة، بيد أن واقع الحال يكشف أن الكثير من هؤلاء يخفون تخوفهم من انسحاب الولاياتالمتحدة الكامل، ويتأسس ذلك على عدد من الاعتبارات الأساسية منها، أن هناك الكثير من تلك القوى ممن يستفيد من البقاء الأمريكي في العراق، سواء لكونها توفر له الحماية، أو تنحاز إلى رؤاه، أو توفر الشرعية إلى خطابه السياسي، أو يبرر سياسته في اللجوء للعنف بدعوى محاربة الاحتلال ومناصريه!. هذا فيما ترى اتجاهات سياسية أخرى، أن انسحاب أمريكي سريع قد يفضي إلى عراق يتجه لغياهب المجهول، ويعاني مستقبله من ضباب كثيف، كون مستقبله سيغدو مليئا بالاضطرابات السياسية والتوترات الأمنية، وعودة النوازع الطائفية والعرقية، التي قد تكون الخلفية الأساسية لتقسيم العراق إلى دويلات ثلاث تتصارع فيما بينها، لتعدد الهويات، واختلاف نمط التحالفات، فضلا عن أن أمرا كهذا قد يدفع بالعراق إلى أن يكون أسيرا لسياسات جواره الجغرافي، الذي لن يتوانى البعض منه عن استغلال الوضع العراقي المضطرب، من أجل ترسيخ مشروعه الخاص. وتتكئ بعض الاتجاهات العراقية والغربية في تبني الدعوة إلى عدم التعجل في الانسحاب الأمريكي، إلى أن محض انسحاب القوات الأمريكية خارج المدن العراق في يوليو 2009، قد أفضى إلى اندلاع "الموجة الثانية" من عمليات العنف، حيث تفاقمت العمليات التي طالت جهات ومؤسسات سيادية في الدولة، مثل وزارة الخارجية، وديوان عام محافظة بغداد، ووزارة المالية، والبنك المركزي العراقي، فضلا عن عودة عمليات العنف لتشكل وجبات رئيسية في اليوميات العراقية، خلال الشهور الأخيرة، على نحو ساهم في استمرار إراقة الدماء، وهو ما عكسه البحث الصادر في مايو الماضي عن "المركز الأمريكي للتقدم"، والذي قدر عدد المدنيين العراقيين الذين قتلوا منذ الغزو الأمريكي بما لا يقل عن 105 آلاف شخص، وعدد قوات الأمن العراقية التي لاقت نفس المصير بما لا يزيد على عشرة آلاف. خسارة العقول وفيما يتعلق بعدد الذين شردوا من مدنهم وقراهم، فقد وصل إلى زهاء 2.8 مليون شخص، وعدد من هاجر منهم إلى الخارج بلغ زهاء 1.8 مليون. هذا في الوقت الذي خسر فيه العراق الآلاف من علمائه وأساتذته ومهنييه، سواء من خلال التصفية الجسدية المتعمدة، أو بدفع هؤلاء إلى مغادرة البلاد. مصاعب واشنطن وعلى الرغم من أن الانسحاب الأمريكي قد يزيد من مأزق القيادات السياسية العراقية، في ظل صعوبة حفظ الأمن، غير أن مأزق واشنطن والرئيس الأمريكي باراك أوباما قد يبدو أعمق، ذلك أن قيام واشنطن سابقا بسحب بعض قواتها المقاتلة في أفغانستان، من أجل غزو العراق ومواجهة الاضطراب الأمني الذي اجتاح أراضيه بعد غزو عام 2003، قد أفضى إلى تحسن أمني نسبي في العراق حينها، وتدهور أمني كبير في أفغانستان، وعودة "طالبان" بقوة، ومن ثم فإن الانسحاب الأمريكي من العراق من أجل تعزيز وضع القوات الأمريكية في أفغانستان قد يترتب عليه تحقيق استقرار مؤقت وهش في كابول، فيما ستجابه بغداد انهيارا أمنيا شبه كامل، وذلك وفق أغلب التقديرات. أمن بعيد الأمد من جهته، أشار الباحث الاستراتيجي ب"مركز الأهرام للدراسات"، محمد عبد القادر، إلى أن واشنطن تسعى إلى "تدشين علاقات إستراتيجية طويلة الأمد مع العراق، في مرحلة ما بعد الانسحاب، وذلك بعد أن تكبدت خسائر بشرية ومادية ضخمة"، معتبرا أنها تسعى بجدية لتحقيق عدد من الأهداف الأساسية، التي شملها في النقاط التالية : • السيطرة المباشرة على مواقع النفط العراقية. ذلك أن العراق وفق التقديرات الغربية مخزن استراتجيي للنفط، خاصة أنه سيتمكن من إنتاج ما يقرب من عشرة ملايين برميل يوميا، بعد أن عقد زهاء 10 اتفاقات مع 12 شركة بترولية عالمية. • البقاء على مقربة من الحدود الإيرانية، وذلك للحيلولة دون توظيف إيران للعراق ك"ورقة ضغط" على طاولة المفاوضات مع القوى الغربية، فيما يخص ملفات الاشتباك، وعلى رأسها الملف النووي. • ضمان عدم وقوع مواجهات داخلية مسلحة، ذات طبيعة عرقية وطائفية بين الجماعات العراقية، بما قد يجهض المخططات الأمريكية في العراق، لاسيما إذا كانت هذه المواجهات على أساس عرقي بين العرب والأكراد. وهناك تقارير تطالب في هذا الإطار أن تضع الولاياتالمتحدةالأمريكية هذا الأمر نصب أعينها، حين تبت في مسألة حصول العراق على طائرات أمريكية من طراز F-16، ودبابات من طراز M-1، كونها يمكن أن تشكل تهديدا لإقليم كردستان، الذي تضعه واشنطن في قلب إستراتيجيتها الجديدة، في منطقة الشرق الأوسط. • تتخوف واشنطن من أن يملأ تنظيم "القاعدة"، الفراغ الذي يمكن أن يخلفه الانسحاب الأمريكي من العراق. وفي هذا الإطار يقول القادة العسكريون الأمريكيون والعراقيون إنهم يتوقعون أن يقوم التنظيم، وغيره من الفصائل المسلحة، بمحاولة إشعال نيران "الفتنة الطائفية" في العراق بعد الانسحاب الأمريكي، وذلك من أجل اقتناص الفرصة للانقضاض على نظام الحكم في بغداد، بما يمهد الطريق أمام انتشار "الإرهاب" وتصديره إلى دول الجوار. مستقبل الأكراد وخلال الصورة العامة للوضع العراقي، يبرز محور هام، وهو مستقبل إقليم كردستان، ذي الامتيازات الأمريكيةوالغربية، إلا أن الكاتب السياسي محمد جمال عرفة، اعتبر في حديث مع "الوطن"، أن "علاقة واشنطن بأكبر حزبين يقودان إقليم كردستان توترت"، مرجعا الأسباب إلى "سياسات تتعلق بالفساد المالي، والتعامل الخفي مع إيران، والتصعيد ضد الحليف التركي"، وبناء على ذلك فإن "مستقبل الأكراد داخل الدولة العراقية غير واضح، ولكنه في نهاية الأمر سوف يرتبط بالموقف والمصالح الأمريكية"، بحسب عرفة الذي يرى أن هنالك ثلاثة سيناريوهات مرتقبة، لمستقبل الأكراد في العراق، وعلاقتهم مع الأمريكان، وهي على النحو التالي: 1- السيناريو الأول: البقاء داخل العراق الموحد، مع حكم ذاتي موسع لكردستان، وتحديد حدود الإقليم. وهذا يبدو السيناريو المفضل لدى الجميع: الأمريكان، والأتراك، والإيرانيين، والحكومة العراقية أيضا. فهناك خشية أمريكية من القادة الأكراد الحاليين، وحال من عدم ثقة بهم، حسب "عرفة"، بسبب استشراء حالة من "السلطوية"، و"الفساد المالي"، بصورة غير معهودة في الإقليم، لا تختلف عما كان يوجهه الأمريكان من اتهامات لحكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ومخاوف من صعود التيارات الإسلامية المتشددة هناك، كرد فعل على هذا "الفساد" و"التسلط" والاحتلال الأجنبي، كما أن هناك عدم ثقة في قدرة هذا النظام على حماية المصالح الأمريكية في المنطقة. فالأحزاب الإسلامية والمستقلة تزداد شعبيتها، تصديا ل"فساد"، الحزب الديموقراطي الكردستاني والتحالف الوطني الكردستاني، وتستمد قوتها من انتقاده الكبير للسياسة الأمريكية، والنوايا الأمريكية بالبقاء في كردستان. وفي انتخابات كردستان، صوت الناخبون لحزب كردستاني ثالث بقوة، هو "الحزب الديموقراطي الكردستاني"، المسمى "جوران"، أو التغيير والإصلاح، والذي حقق نتائج غير مسبوقة، وحل ثالثا كقوة جديدة في شمال العراق، لينهي سيطرة الحزبين التقليديين. وهو ما يعد نوعا من العقاب لهذين الحزبين من قبل الأكراد، كما يرى ذلك نائب رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط بالقاهرة، الدكتور محمد مجاهد الزيات. 2- السيناريو الثاني: الانفصال بدولة مستقلة تماما، وهو ما ترفضه تركيا وإيران، بسبب مخاطره على مطالبة أكراد إيران وتركيا بالمثل، أو دعوتهم للانضمام لهذه الدولة الوليدة، ما يعني اقتطاع أجزاء من تركيا وإيران لدولة كردستان. يضاف إلى ذلك، أن عددا من المسؤولين الأكراد، ينظرون إلى العلاقات الأمريكية- التركية، على أنها "لعبة يخرج فيها الطرف الثاني صفر اليدين"، فإما أن تقوم واشنطن بتنفيذ صداقة متينة مع "أربيل"، أو أن تتحالف مع أنقرة. معتبرين أن كردستان ستكون حليفاً أفضل بكثير لواشنطن من تركيا. وهم يرون أن الزعيم مسعود برزاني، راغب في قاعدة أمريكية على أراضيه، توفر له حصانة من الانتقام التركي، ولكن هذه الحصانة التي يريدها، لا يمكن أن تدفع واشنطن للتضحية بمصالحها مع تركيا، بالرغم من أن اللوبي الكردي في الكونجرس الأمريكي، بدأ يدفع في هذا الاتجاه، بعد التطورات الأخيرة، عقب أزمة قافلة الحرية التركية لغزة، والتوجه صوب كل ما يخص مصالح إسرائيل في الكونجرس. 3- السيناريو الثالث: هو تضحية أمريكا والغرب بالأكراد، وإجهاض حلم دولتهم، والسماح بحكم ذاتي محدود فقط، وهذا يمكن أن يحدث في ظل تنسيقات أمريكية- إيرانية- تركية، ورغبة في بقاء العراق الموحد، وعدم جلب الفوضى إلى المنطقة.