وجد كُتاب الأعمال السورية التلفزيونية بمختلف مشاربهم الثقافية وميولهم، في الأزمة التي تعيشها بلادهم منذ أكثر من أربعة أعوام، مادة دسمة لكتاباتهم التلفزيونية لتقديمها على الشاشات العربية كوجبة دسمة، وكتبوا عدداً لابأس به من الأعمال مستفيدين من ظروف الحرب الدائرة التي أوجدت وجعاً مزمناً في مختلف مفاصل الحياة الاجتماعية ومرافقها، لتكون أعمالهم شاهداً حياً على ما تمر به البلاد من مآس، حيث نقلوا الأزمة بمختلف مكوناتها إلى الشاشة الفضية، ليعيش المشاهد السوري تحديداً وجعه مرتين، فيما تكون ضحكة بطعم الدفلى على مائدة الإفطار العربية. جاءت الدراما بطعم الوجع السوري، وطال ذلك حتى الأعمال الكوميدية التي سارت على نفس الطريق. جردة حساب خلال هذا الموسم الدرامي قدم الكاتب أسامة كوكش مسلسل (بانتظار الياسمين)، فيما أطل الكاتب أيمن الدقر على الأزمة السورية عبر (حارة المشرقة)، وعرى الكاتب والمخرج زهير قنوع تجار الحرب والأزمات وفضح ممارساتهم الاستغلالية عبر أحداث (شهر زمان)، وتواجد الكاتب جورج عربجي عبر مسلسل (امرأة من رماد)، وجسد الكاتبان علي وجيه ويامن الحجلي وقائع مؤلمة ومناظر لا تقل قسوة عن الواقع من خلال (عناية مشددة)، والتقط الكاتب إياد أبو الشامات كثيراً من وقائع الأزمة عبر عمله (غداً نلتقي)، وأبدع الكاتب ممدوح حمادة في عمله الموسم الفائت (ضبو الشناتي)، وقدم لنا الكاتب والممثل رافي وهبة (حلاوة الروح)، والكاتبة يم مشهدي (قلم حمرة)، وسبقهم الكاتب سامر رضوان في (الولادة من الخاصرة) وهو العمل الذي أحدث حراكاً في الأوساط الثقافية والاجتماعية حينها، وهناك أيضاً أعمال (حدث في دمشق) و(سنعود بعد قليل)، و(منبر الموتى) و(وطن حاف) والمسلسل الكوميدي الذي يتناوب على كتابته عدة كتاب (بقعة ضوء) وغيرها من الأعمال التي اجترت الأزمة من مختلف جوانبها (نزوح وتهجير ومعاناة واستغلال وخطف وقتل وانتقام وكل التفاصيل الموجعة للمواطن). تبرير منطقي يرى كاتب مسلسل (امرأة من رماد) جورج عربجي "أنه لا يجب على الكاتب الدرامي أن يكون سادياً مع شعب مورست عليه أبشع أنواع التعذيب النفسي خلال السنوات الأربع الماضية، بل يجب أن تكون مهمة الكاتب الدرامي إيصال رسائله بين السطور، وبطريقة منطقية وممتعة لتصل بمنتهى السلاسة للمشاهد الذي وصل لمرحلة لم يعد يتقبل فيها أي نوع من أنواع جلد الذات، لأن مهما كانت الفكرة مهمة، إن لم تكن ممتعة، فلن تصل". وفي رد لعى سؤال حول: لماذا على المشاهد السوري أن يرى الوجع مرتين، ففي عمله (امرأة من رماد) مشاهد قاسية، وهناك مشاهد أقسى في مسلسلات أخرى، وهل ليس لدى الكاتب طريقة أخرى للتعبير غير استنساخ الوجع، يجيب عربجي "مشهد (قص الإصبع) لشخصية أبو سارة الذي تم خطفه ولم يستطع توديع ابنته التي على فراش الموت، المقصود منه الإضاءة على إجرام الخاطفين الذين هم (برأيي) أسوأ ما انتجت الحرب السورية، هم (ومع الأسف) سوريين، وهذا أسوأ ما في الأمر، عندما تتكلم عن غريب قد أساء إليك، فإنك لا تشعر بالغصة كما لو أن من يؤذيك هو ابن بلدك، وبأشد أنواع الشر وانعدام الإنسانية، وحالة قطع الإصبع هي غيضٌ من فيض لما حصل ويحصل في الواقع مع مواطنين تم خطفهم على يد هذه المجموعات، ونحن كدراما علينا أن نسلط الضوء وبقوة على هؤلاء". ويتابع "اللقاح يحمل ذات الفايروس الذي تريد أن تشفى منه، ونقل صورة (مبسّطة عما يجري) هو لتوعية بعضنا البعض، أن يتم التبليغ عن أي أصوات لأشخاص غير طبيعيين، وألا يتوانوا لحظة عن إخطار الجهات المعنية (إن لاحظت بالحلقة 17 على ما أذكر) حين (جيران) منزل المخطوفين ترددوا في البداية عن التبليغ، وترددهم هذا هو ما أودى بحياة أبو سارة، وحين أبلغوا الجهات المختصة تم الإفراج عن باقي المخطوفين أي أنك لا تستطيع أن تنبه عن حالة (خطيرة كهذه) دون أن تجسّد مثالاً، ويجب عليه (المثال) أن يكون مؤلماً حتى يتعظ الناس ولا يسمحوا للتردد أن يدخل نفوسهم، وعليه يجب عليك أن تنقل الوجع مرة أخرى عن طريق الدراما، ولكن يجب حتماً على هذا النقل أن يرافقه توعية وتقوية من نواحٍ أخرى، نحن بأمسّ الحاجة وبهذه الأوقات للتحصين النفسي بعد هذه الحرب الضروس المنهكة لنفسية كل مواطن والتحصين النفسي يأتي أولاً من التوعية". ويتابع عربجي مبررا نقل هذه الأزمة للتلفزيون "الدراما المعاصرة أو دراما الواقع هي التفاعل الإنساني مع ما يجري في حياتنا ومجتمعنا، وما الحياة الإنسانية إلا عبارة عن صراعات متعددة الأسباب، وبما أن أزمتنا السورية أصبحت جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فإن هذه الأزمة أصبحت مادة غنية جداً لأي كاتب في الدراما المعاصرة، وأؤكد أنه من غير المنطقي أن نطرح عملاً درامياً معاصراً، ويكون بذات الوقت بعيداً عن الواقع المعاش". وحول ما غذا كام ما كتب عن الأزمة يجسد الواقع، يقول " يقول "بعض الأعمال تمكنت من مقاربة الواقع، لأنه من الصعب جداً (حتى لا أقول محال) أن يُختزل الواقع السوري الحالي كاملاً بعملٍ دراميّ مؤلف من ثلاثين حلقة، فمن استطاع أن يقارب الواقع بعملٍ درامي (برأيي) فإنه قد أدى رسالته على أكمل وجه مع تحفظي على الأسلوب الذي تم اعتماده ببعض الأعمال". أما عن الكوميديا (السوداء) التي انتقلت إليها عدوى الأزمة، فيقول "خطورتها أخف وطأة من دراما الواقع حتى وإن لم تُخدّم بالشكل الصحيح، لأنها بالنهاية ترسم ابتسامة على وجه المشاهد حتى لو كانت ابتسامة بنكهة حزن ولكنها بالنهاية ابتسامة". توثيق وليس معالجة يرى الكاتب مازن طه أننا دائما نحاول تحميل الدراما أكثر مما تحتمل، ونريد منها أن تكون منبراً لكل قضايا المجتمع والأمة، وفي ظل غياب كل قنوات الثقافة الأخرى يمكن للدراما أن تقوم بهذا الدور ولو مرحليا بسبب قوة انتشارها وعمق تأثيرها، لكنه يطرح ذات السؤال الجوهري، كيف من الممكن أن تتناول الدراما الزلزال السوري؟، ويجيب "باعتقادي أن ما قدمته الدراما السورية حتى الآن لا يعدو تسجيلاً وثائقياً لبعض ما يجري، واستجرار عقيم لبعض ما يجري على الأرض دون الدخول في العمق، أي أنها دراما إخبارية توثيقية لا أكثر، بينما تناولت أعمال أخرى بعض الجوانب الإنسانية. أعتقد إننا بحاجة إلى دراما تقوم بتشريح المجتمع السوري ونبش ثقافته وتاريخه وحاضره بنظرة تحليلية ناقدة وجريئة في آن معا.. نحن بحاجة إلى من يكتب دراما تجنح إلى التحليل المعرفي والفلسفي والتاريخي تعيد قراءة المجتمع السوري بآليات ناقدة، ولكن من المبكر الحديث عن هذه الدراما، فالجرح ما زال ساخناً، ربما بعد عدة سنوات ستتبلور هذه الصيغ الدرامية، حتى لا نصاب بالتسرع والسطحية، وعلى سبيل المثال الحرب الأهلية اللبنانية لم تتناولها الدراما اللبنانية حتى الآن بسبب الخوف من ارتدادات هذا الطرح الذي قد يفجر أزمات جديدة، وباختصار شديد أقول، لم يحن الوقت بعد لتحديد مسارات مختلفة وجديدة تناسب ضخامة الحدث السوري". وحول ما إن كان ما طرح حتى الآن يمثل استسهالاً من الكاتب في استنساخ الأزمة بهذه الطريقة، يجيب طه "الاستسهال سمة مميزة للدراما التلفزيونية ومعظم الأعمال تقع في هذا الفخ.. وأعتقد أن الأزمة السورية كرست هذه السمة بسبب غناها بالأحداث الدامية والقصص المثيرة والمؤلمة.. ومن الطبيعي أن يلجأ معظم الكتاب لاستثمار هذا الوضع ربما عن حسن نية أحياناً، ولكن مهما كانت النوايا فإن النتائج التي نراها على الشاشة لم تقارب الحدث الذي على الأرض.. وكما قلت لك نحن بحاجة لسنوات لنتمكن من استيعاب ما يجري والبناء عليه". مقاربة قاصرة من جانبه، يقول الناقد الفني ماهر منصور الذي يواكب الدراما السورية وكُتَّابها عن هذا الموضوع "نقاشات حادة شغلت بها أوساط إعلامية وفنية، على مدار السنوات الأربعة الأخيرة تتعلق بطبيعة الدراما التي يجب أن تقدم في ظل الأحداث الساخنة التي تعيشها سورية، هل نقدم دراما تتناول ما جرى ويجري على الأرض، وبالتالي نعيد اجترار المشهد الدموي الذي نراه في الشارع، ونتتبعه في نشرات الأخبار وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أم على صناع الدراما الانفصام عن واقعهم وتقديم مسلسلات تأخذ المشاهد السوري والعربي في هدنة خاصة، بعيداً عما يحدث حوله من نزيف دم وخراب؟. المشهد النهائي للدراما السورية كشف أن السوريين اختاروا الجمع بين الاحتمالين.. فهذه الدراما لا تستطيع أن تنفصم عن الواقع بالنتيجة، كما كرست نفسها على مدار عقود. المنطق الفني أولاً، وحالة المشاهد المنقسم بين مؤيد ومعارض وحيادي بينهما أو معارض لهما، كانت تقتضي مقاربة الحدث الساخن في سورية من زاوية واحدة، هي المنظور الاجتماعي والاقتصادي والإنساني وتداعيات الأحداث في هذا السياق، وذلك بوصفها أحداثاً لا تحتاج، إلى حد كبير، أن تركن للوقت لترسم ملامحها كاملة، كما أنها الأسهل في تشكيل خطاب درامي جامع، يغازل وجدان جميع الناس، ويتقاطع مع يومياتهم، دون أن يستفز أحداً، أو يبدي انحيازاً مع طرف دون الآخر من أطراف الانقسام. ووفق تلك المحددات العامة، قامت غالبية الأعمال الدرامية بالتقاط الجانب المعيشي في حياة السوريين، وتداعيات الأحداث على حياتهم، اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، دون أن تقحم نفسها بالجدل الدائر اليوم بين طرفي الصراع في سورية، مكتفية بدور الناقل لهذا الجدل، بمنطق المؤيد ومنطق المعارض.