يعرف الجميع حكاية "ليلى والذئب"، وهي قصة رمزية، تهدف إلى تعليم الصغار، الشجاعة والقدرة على التفكير في المواقف الصعبة. لأن الذئب، ليس فقط هو ذلك الحيوان ذو الشعر الخشن، الذي يجول في الوديان والغابات، بحثاً عن فريسته، فهو يتحول عبر الرمز إلى كل "قوة غاشمة" تضرب بلا رحمة ضحاياها، بما فيها "قوة الموت الغاشمة"، التي قال عنها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى "رأيت المنايا خبط عشواء من تصب - تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم ". ليلى السعودية! ذات مساء من أيام رمضان المنصرم، وقفت فتاة في السادسة عشرة من عمرها، تدعى "ليلى"، أمام حشد من النساء، تجاوز عددهن 500 سيدة، في مقدمتهن حرم أمير منطقة مكةالمكرمة، الأميرة العنود بنت عبد الله بن محمد آل سعود، تروي قصتها مع "ذئب الزمن" ورفيقه "ذئب المرض"، فهزت مشاعر الناس بآلامها، ووقفت الأميرة باكية تنهال دموعها، وهي تصافح ليلى، وتعدها بالحماية، وإنهاء قصتها بما تحب، فانثالت معها أصوات نشيج نسائي ل500 امرأة، شاركن في احتفالية "حرفية"، بتسليم مفاتيح المشاريع الخيرية المجانية، لعدد من السيدات السعوديات. ذئب المرض ذات ظهيرة في أحد أحياء "جدة" الفقيرة، علقت سيدة في الأربعين من عمرها، تدعى "فهدة صابر" في حبائل الموت..هو ذا ذئب المرض ينقض على فريسته الضعيفة، في غابة الإسمنت، بينما الناس نيام! ولكن، أين كانت ليلى؟. شاء القدر أن يكون بعض البشر حينذاك في حالة صحو، فقبل أن تسقط "فهدة" بين مخالب المرض الكاسر، أدرك هؤلاء أنها بحاجة إلى الرعاية، أولئك هم الناس في "حرفية". فمنذ عدة شهور، عندما سمعت السيدة الأربعينية "فهدة صابر"، عن المبادرات التي تقدمها "حرفية"، والتي أخذت على عاتقها المساهمة في معالجة الفقر، بفلسفة عصرية، تنسجم مع قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يشكو الفقر، فأعطاه الفأس والحبل، في رؤية مختلفة لطريقة معالجة الفقر والعوز، ولسان حالها، كما العبارة الشهيرة "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطادها". السيدة "صابر"، ذهبت تشكو إلى الجمعية ضيق الحال، فألحقتها على الفور بدورة تدريبية مكثفة، لتعلم فنون الديكور، وأدرجتها ضمن الدفعة الأولى للحرفيات، الموعودة باستلام مشاريع تجارية مجانية، والحصول على عدد كبير من التسهيلات، لاقتحام سوق العمل المهني، والبدء في عمل يكون مصدر دخل لها، وهم بذلك يحققون أكثر من هدف: حلُ مشكلة الفقر التي تعاني منها السيدة، تعلم مهارة جديدة لفرد من أفراد المجتمع، وخلق دورة إنتاج معيشية، دون أن يؤثر ذلك على ميزانية الجمعية، أو يثقلها بأعباء مالية، تؤثر عليها سلبا، وتفقدها قوتها واستمراريتها. فهدة وابنتها فهدة صابر، كانت ببصيرة الأم، تخاف على مستقبل ابنتها، ولذا، طلبت من "حرفية" إدراج ابنتها الكبيرى "ليلى"، لتتعلم هي الأخرى حرفة تساعدها على فتح أبواب الرزق أمامها، ومواجهة متطلبات الحياة، بعد أن تكمل العمر المخصص لها في ممارسة العمل. الأم "فهدة" جلست في ورشة العمل التدريبية، تتعلم فنون الديكور، وتتعرف على أسرار المهنة في السوق، وكلما مرت الأيام، اقترب الحلم من التحقق، بعد أن تحدد تاريخ الثامن عشر من رمضان الماضي، موعداً لاستلام "محلها"، ضمن مركز "تجار الغد"، الواقع في شارع "فلسطين"، بمدينة جدة، وتحديدا في سوق "بامجلي"، التابع لجمعية "حرفية". الاختفاء الغامض! باب الرزق الذي باب قريبا من يدي "فهدة"، لتسلم مفتاحه، فجأة ودون سابق إنذار، هجرته الحرفية "صابر" وابنتها ليلى، قبل يومين من تسليم المفاتيح، حيث اختفتا عن الأنظار تماما، الأمر الذي شكل لغزاً كبيراً لجمعية "الأيادي الحرفية"، ودفع القائمين على الجمعية ليبحثوا عنها في كل مكان. حيث ذهبوا إلى الحي الشعبي الذي تسكنه في جدة، لتكشف الأمر عن مفاجأة لم تكن على البال، فقد قام المستأجر بطردها وأبنائها من الشقة، واضطرت الأم إلى الذهاب والعيش عند أقاربها، بعد أن أصبحت بلا مأوى! يدُ الموت وكأن فقدان المسكن وحده لا يكفي، فقد تتالت الأحزان، وأطل "الذئب" مجددا، حيث لم تكمل "فهدة" بضعِة أيام قليلة، إلا وصعدت روحها إلى بارئها، فقد تبين أنها كانت مصابة ب"سرطان المعدة"، الذي لم يمهلها كثيرا من الوقت، وكأنها لم تتحمل "طعنات" الحياة المتتالية، والحزن العميق الذي ارتسم على وجوه أطفالها الصغار، وهم يغادرون المنزل مطرودين، واختفاء والدهم. شموخُ ليلى في الموعد المحدد لتحقيق "الحلم"، كتمت "ليلى" وجعها، كفكفت دموعها، وشدت على جرحها، واتشحت باللون الأسود، مقررة أن تقف في نفس المكان المحجوز لوالدتها. صعدت إلى المسرح، لتقول كلمة "حب" في والدتها، التي تحملت "شقاء" الدنيا. في الحفل، صعدت ليلى المسرح، قالت كلماتها الصغيرة لفظا، والكبيرة والعميقة معنى، والحضور في انشداد لها، وفي مقدمهم الأميرة العنود بنت عبد الله، التي ما كان منها إلا أن قامت من مقعدها، مدفوعة بعاطفة جياشة، متجهة نحو الفتاة اليتيمة، ابنة ال16 ربيعا، محتضنة إياها، وهي تبكي بشدة، قائلة: "إذا كانت أمك رحلت إلى مثواها الأخير، فكلنا هنا لك أم"، وهنا على نشيج بكاء 500 سيدة، حضرن حفل افتتاح، تخريج الدفعة الأولى من خريجات جمعية "الأيادي الحرفية الخيرية"، كان المشهد بليغا، حيث تم أيضا تسليم أكثر من 70 شابة سعودية من محدودي الدخل، مفاتيح مشاريعهن في صيانة الهواتف النقالة، والحاسوب، والتصوير الفوتوغرافي، والأزياء، والتفصيل، والتطريز، والتجميل، وصناعة الإكسسوارات، وجميعها مشاريع تم تدريب الفتيات عليها في ورش عمل مكثفة. عطاءُ الحضور حرم أمير مكةالمكرمة، التي حنت على "ليلى"، عملت على تحويل دموع الفتاة الصغيرة إلى ابتسامة رضا، فأعلنت أمام الحضور، عن تكفلها برعاية شاملة للفتاة ولأسرتها، وتوالت بعدها المعطاءات، حيث سلمتها الجمعية مفاتيح المحل، الذي كان مخصصاً لوالدتها الراحلة. وفي ذات الوقت، أعلنت "حرفية" في مبادرة منها، عن إلحاق "ليلى" بورشة عمل لصيانة الهواتف النقالة، لتستفيد منها أيضا، خصوصا أن هذه السوق تشهد تطورا كبيرا، ويقصدها العديد من المستخدمين للهواتف المحمولة، الأمر الذي سيعود على الفتاة وعائلتها بالنفع الكثير.