"ليس بعد حرق الزرع جيرة".. هكذا يقول المثل الشعبي المعروف في صعيد مصر، والذي أكدته جماعة الإخوان بعد انهيار حكمها بمصر، فقد حرقت الأخضر واليابس، ولم تحافظ حتى على "شعرة معاوية" سواء مع الدولة أو المجتمع المصري، ورفع المنتمون للجماعة السلاح في وجوه أبناء بلدهم ، سواء من قوات الجيش والشرطة، وحتى بسطاء المصريين الذين وضعتهم الأقدار في مواقع الأحداث. لهذا يؤكد رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء محمد فريد التهامي على هامش إحدى الفعاليات التي شارك فيها مع عدد من الصحفيين الأجانب ومراسلي الصحف ووسائل الإعلام الغربية، "أن الإرهاب لا يُفاوض، لأنه يستهدف السلطة كاملة، وأن المشكلة لا تكمن فيما تريده السلطات المصرية، فالمسار السياسي الجديد الذي يتشكل حالياً يسعى إلى الاستقرار، لاستكمال "خارطة الطريق"، لكن التنظيم الدولي للإخوان قرر في كل اجتماعاته التي عقدها في تركيا، وماليزيا، ولندن، والدوحة، وغيرها، سلسلة توصيات، كانت تتصدرها توصية بالتصعيد الميداني لزيادة أعداد الضحايا". اختراق البيت الأبيض في معرض رده على سؤال لمراسل "الواشنطن بوست" عن مستقبل الجماعة رد التهامي متهكماً بسخرية مريرة بقوله "لماذا لا توجه هذا السؤال إلى إدارة الرئيس أوباما، وجهاز المخابرات لديكم "CIA"، وبعبارات صريحة أكد أن التنظيم الدولي للإخوان تجاوز مرحلة التواصل مع واشنطن، ليخترق إدارة أوباما بعدد من المنتمين تنظيمياً وحركياً للإخوان، أو المتعاطفين معهم، وأن لديه لائحة تضم أسماء هؤلاء وسيرتهم الذاتية ومواقعهم. ولمن لا يعرف رئيس المخابرات العامة المصرية محمد فريد تهامي، فقد كان يشغل منصباً رفيعاً في عهد حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وهو رئاسة "هيئة الرقابة الإدارية" والذي شغله لمدة 8 أعوام وتحديدًا منذ 21 مارس 2004، واتهمه مساعدو مرسي وأعضاء مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان بأنه "خائن"، ويتستر على رموز عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. وفي صباح يوم الأحد الموافق 3 سبتمبر 2012 وأثناء توجهه إلى عمله فوجئ باتصال من مكتب الرئيس "الإخواني" المعزول يبلغه بإقالته من منصبه، وإحالته لنيابة الأموال العامة للتحقيق معه بتهم كثيرة أبرزها التستر على رموز نظام مبارك وتعمد تقديم معلومات مغلوطة عنهم، والإهمال في التحريات الخاصة بوقائع الفساد. وخضع بالفعل لتحقيقات مكثفة انتهت بقرار النائب العام حفظها لعدم توافر أدلة كافية تستوجب توجيه اتهامات لإحالته للمحاكمة، ورفض الرجل التحدث للصحافة حول ملابسات إقالته والتحقيق معه وآثر الصمت والابتعاد عن الساحة تمامًا، لكنه ظل موضع تقدير واحترام المؤسسة العسكرية. وعقب سقوط نظام مرسي وإخوانه، فوجئ مرة أخرى بمكتب الرئيس المؤقت عدلي منصور يستدعيه مساء الجمعة الموافق 5 يوليو 2013 ليبلغه بقرار تعيينه رئيساً لجهاز المخابرات العامة، لتبدأ مرحلة جديدة في مسيرته المهنية. لكن هذه المرة يتحدث بها إلى مراسل "الواشنطن بوست"، بينما كانت العلاقات بين واشنطنوالقاهرة قد بلغت ذروة التوتر، عقب عزل مرسي، وإحالته ومعه قادة الجماعة إلى المحاكمة في عدة اتهامات. بوادر المخطط الدولي وسربت الأجهزة السيادية معلومات لعدد محدود من الصحفيين المصريين، منهم كاتب هذا التقرير، بشأن مخططات التنظيم الدولي للإخوان، منها إلقاء المخابرات العامة القبض على شخص فلسطيني ينتمي لكتائب "القسام" الذراع العسكري لحركة "حماس" وبحوزته خرائط تفصيلية بمواقع أجهزة أمنية ومؤسسات حكومية هامة، فضلاً عن قوائم بأسماء قيادات جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقًا) وأجهزة أمنية أخرى، وأسفرت التحقيقات معه عن مخطط لسلسلة تفجيرات لمنشآت هامة واغتيالات لكبار الضباط، وهو ما حدث بالفعل لاحقًا. هذه المعلومات المقتضبة التي كشفها رئيس المخابرات المصرية، أوجزها في سياق رده على سؤال حول مستقبل الإخوان، بقوله "إن مشكلتهم تكمن في ارتباط التنظيم الدولي بواشنطن، لهذا فإنهم قرروا التصعيد لوصم المسار السياسي الجديد بالضعف والفشل، ومحاولة الضغط على الشارع المصري بإثارة العنف والفوضى والمواجهات الدامية والتفجيرات والاغتيالات وغيرها من الممارسات الإرهابية، لنسف ثقة الشعب بالجيش والشرطة التي ارتفعت عقب إطاحة الرئيس الإخواني وجماعته، استناداً على ضوء أخضر من الإدارة الأميركية، وهو ما أكده خبير أميركي يرتبط بالبنتاجون وأجهزة الاستخبارات الأميركية في محاضرة ألقاها بألمانيا". النازيون المتأسلمون ومن القاهرةلواشنطن ومحاضرة ألقاها الباحث والخبير الاستراتيجي المعتمد لدى البنتاجون وليام إنجدال، والذي يُلقي محاضرات للقيادات الوسطى بالجيش الأميركي، ومؤلف كتاب شهير يحمل عنوان "النفط والجغرافيا السياسية، وقرن من الحروب" الذي تناول فيه الرؤية الأنجلو أميركية، وأحد عرّابي مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي زار وأقام سنوات بكافة الدول العربية، وخلال محاضرة له في جامعة (راين ماين) بألمانيا، قال فيها إنه خلال الحرب العالمية الثانية وصل النازيون لمصر وجندوا جماعة "الإخوان المسلمين" وساندوهم لقتال البريطانيين، واكتشفوا أن الأفكار النازية تتطابق مع معتقدات الإخوان وطبيعة تنظيمهم الهرمية السرية الصارمة. ويستعرض إنجدال تاريخ الجماعة وعلاقتها بالغرب بالقول "إنه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية قررت المخابرات البريطانية (M i6) احتواءهم، ولم تعاقبهم على دعمهم للنازيين لكنها قدمت لهم الدعم السياسي والمالي، لاستخدامهم كأدوات للضغط على القوى الإقليمية الفاعلة كمصر والسعودية. وحينما وصلت أميركا إلى المنطقة لحماية أمن إسرائيل وتأمين حصولها على النفط، تسلمت المخابرات الأميركية CIA ملفهم من نظيرتها البريطانية، وحين اصطدموا بنظام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي نكّل بهم، ساعدتهم المخابرات الأميركية في الهروب سواء لدول الخليج، أو لبريطانيا، التي صارت أحد أهم مناطق نفوذهم، وترسخ وجودهم فيها مع الجيلين الثاني والثالث من الجماعة، وبدأت واشنطن لعبة خطيرة مع مزيج بالغ التعصب الديني، وكانت أهدافها على المدى القصير تصديرهم إلى أفغانستان لقتال القوات السوفيتية وتسليحهم وتدريب قادتهم بمعسكرات أميركية، حتى تفكك الاتحاد السوفيتي، وعاد بعضهم إلى بلدانهم الأصلية ليثيروا فيها قلاقل بينما ظلت مجموعات ممن اصطلح على تسميتهم "الأفغان العرب" الذين أصبحوا بعد إهمال واشنطن التعامل معهم، نواة لتنظيم "القاعدة" الذي وجه ضرباته الموجعة في أحداث 11 سبتمبر 2001، واكتشفت المخابرات الأميركية أنها أخطأت لأنها تجاهلت احتواء هذه الكوادر المسلحة بعدما انتهت مهمتهم في قتال القوات السوفيتية. استراتيجية التعبئة.. والحشود ويمضي إنجدال قائلاً "إنه خلال غزو العراقوأفغانستان، بدأ التخطيط لاستخدام الإخوان في مهمة أخرى تتعلق بالإطاحة بالأنظمة الحاكمة وإثارة ما أسمته كوندوليزا رايس "الفوضى الخلاقة"، فبدأت المخابرات الأميركية بتدريب مجموعات غير متجانسة سواء من الإخوان أو الحركات الشبابية الاحتجاجية، معترفاً بأن ما يوصف بثورات "الربيع العربي" لم تكن عفوية، لكنها كانت مدبرة من قبل كوادر مدربة من "كانفاس" التي تمولها واشنطن، عبر شبكة معقدة من المنظمات غير الحكومية، ولعبت "مؤسسة راند للأبحاث والتنمية" التابعة مباشرة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) على وتر ما أسماه الخبير الأميركي "استراتيجية الحشد والتعبئة"، وتهيئة المناخ السياسي في دول المنطقة، عبر الضغط على حكوماتها بالالتزام بمنظومة الحريات والحقوق العامة، بينما تحركت المجموعات الإخوانية والحركات الاحتجاجية ومنها مثلا "حركة 6 أبريل" المصرية وغيرها، كأسراب النحل، للانتشار الذي تصعب محاصرته، مستخدمين شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت مثل (تويتر) وال(فيسبوك) وبرامج الهواتف الذكية، وهي الآليات التي سبق تطبيقها في جورجيا عامي 2003 و2004، لهذا كانت محطة محورية لتدريب المجموعات الشبابية من شتى الدول العربية، لاستلهام تجربتها والخبرات التي تبلورت هناك بدعم أميركي، وبالفعل جرى تنفيذها بنجاح في مصر. ضغوط واشنطن على القاهرة واعترف الخبير الأميركي بأن انحياز قادة الجيش حينذاك، في إشارة إلى وزير الدفاع ورئيس الأركان السابقين حسين طنطاوي وسامي عنان، الذي ساهم في نجاح الاحتجاجات بعدما أقنعتهم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) بضرورة الإطاحة بمبارك ونظامه، مشيراً في هذا الصدد إلى زيارة سامي عنان لأميركا قبيل اندلاع الاحتجاجات مباشرة، وجرى التوافق على التزام الجيش الحياد، لتتعقد الأوضاع وتصل إلى نقطة حرجة، وأبلغت واشنطن المجلس العسكري السابق بضرورة إجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن، مع أنهم يدركون جيداً أن القوة السياسية الوحيدة المنظمة بالساحة المصرية هي جماعة الإخوان المسلمين، لافتاً إلى أن هذه كانت الخطة الأميركية منذ سنوات مضت. التمهيد للإخوان ويفجر الخبير الأميركي قنبلة خطيرة حينما أشار بعبارات صريحة إلى أن غالبية المستشارين بالبيت الأبيض، والدائرة اللصيقة بالرئيس أوباما وكبار الدبلوماسيين بالخارجية الأميركية ينتمون مباشرة إلى التنظيم الدولي للإخوان، أو متعاطفون معهم وتربطهم علاقات وثيقة بهم، لهذا ضغطوا لإجراء انتخابات مُبكرة رغم علمهم بهشاشة القوى المدنية، مقارنة بالتنظيم الأخطبوطي للإخوان، فضلاً عن أن الاستعجال بإجراء انتخابات قبل إقرار الدستور يحول دون توفير الوقت اللازم للمنافسين المدنيين لتنظيم أحزابهم الوليدة والحملات الانتخابية، لذلك لم يكن مستغرباً اكتساح الإخوان لهذه الانتخابات وسيطرتهم على البرلمان، بتحالفهم مع بعض الحركات الأصولية التي تشكل ظهيرًا شعبيًا للإخوان. الإطاحة بالمجلس العسكري ويكشف إنجدال معلومات جديدة بقوله إنه كان يسود اعتقاد خاطئ لدى المجلس العسكري السابق بأنه تمكن من السيطرة على الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعته، وأن الجنرالات ظنوا أنهم صاروا يمسكون بخيوط اللعبة السياسية، وحق الاعتراض على محاولات الإخوان للتوغل في مؤسسات الدولة السيادية، لكن بعد أسابيع قليلة تدخلت واشنطن مجدداً، لكن هذه المرة مع مرسي، مؤكدةً على مساندته حال إطاحته بقادة المجلس العسكري السابق، وفي صدارتهم طنطاوي وعنان، ومنحته الضوء الأخضر للإقدام على هذه الخطوة، وبالفعل أقال الجنرالين، لكن الشارع ومؤسسات الدولة السيادية أو ما اصطلح على تسميته "الدولة العميقة" اصطدمت بمرسي وجماعة الإخوان ليفقد السيطرة على الشارع الذي ثار ضده في 30 يونيو ويعزله وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي، دون التنسيق أو حتى إبلاغ واشنطن بالأمر، مما أثار حفيظة إدارة أوباما. الإخوان والعلاقة الخفية بواشنطن ولعل المعلومات التي كشفها الخبير الأميركي تفسر المواقف المتناقضة لعلاقة واشنطن بالتنظيم الدولي للإخوان، فبينما تُصنف الإدارات الأميركية المتعاقبة حركة "حماس" باعتبارها منظمة إرهابية، يخرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري ليقول إن "إدارة الرئيس أوباما لا تدرس، أو حتى تناقش احتمال تصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية"، رغم أن كيري، هو ذاته سبق أن قال إن "الإخوان المسلمين سرقوا ثورة الشباب المصريين، وإن الإطاحة بمرسي كانت "ضرورية لمنع سقوط البلاد في أيدي المتطرّفين"، وجاءت تصريحات كيري عقب إعلان الحكومة المصرية جماعة الإخوان "منظمة إرهابية". المعزول.. "شرطي" إسرائيل ويُثار سؤال عن سرّ التناقض الأميركي، باعتبار "حماس" أحد فروع "التنظيم الدولي للإخوان" التي تعتبر في الأساس "منظمةً إرهابية"، بينما تتغاضى عن اعتبار "الجماعة الأم" هكذا، والجواب ببساطة هو "أمن إسرائيل" الذي تعهدت "حماس" بحمايته بموجب اتفاق الهدنة في نوفمبر 2012 والذي لعب فيه الرئيس المعزول محمد مرسي دور "العرّاب"، لضمان التزام "حماس" ببنود الهدنة التي جعلت حركة المقاومة "شرطياً" لأمن إسرائيل. وذهب مرسي إلى أبعد من ذلك بموافقته على وضع أجهزة تنصت عبر الحدود المصرية الإسرائيلية، التي لطالما أن عمل كافة رؤساء وزراء إسرائيل المتعاقبين على مطالبة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بتركيب هذه الأجهزة، لكنه وهذه شهادة للتاريخ موثقة بعيداً عن تقييم نظام حكم مبارك رفض ذلك بشكل قاطع، ودعا الإسرائيليين إلى الحوار مع الفلسطينيين بدلاً من تركيب أجهزة تهدد الأمن القومي المصري، فبوسعها رصد ما يجري في سيناء وكافة المنتجعات مثل مدن الغردقة ودهب وشرم الشيخ، وليس حدود مصر وغزة فحسب. ومن نافلة القول أن شخصية رئيس الدولة تحسم التوافق مع الأميركيين، فمرسي تعلم في أميركا وأولاده يحملون جنسيتها، حتى زوجته عملت في السفارة الأميركية لسنوات، واتضح مؤخرًا أن لديه رجالا يدعمونه داخل إدارة أوباما كما سنأتي على هذا بالتفصيل لاحقًا وكل هذه مؤشرات واضحة تؤكد أن الإخوان كانوا يسعون إلى مصالحهم متمثلة في تثبيت دعائم حكمهم، وكان من الطبيعي إبرامهم "صفقة ما" مع واشنطن. إبراهيم.. ضابط الاتصال الدولي أما اتصالات الإخوان بالمسؤولين الأميركيين فترجع إلى عام 2001 بوساطة الناشط الشهير سعد الدين إبراهيم، الذي اعترف لكاتب هذا التقرير في حوار مسجل بالفيديو بأنه لعب هذا الدور بالفعل، ودوافعه معروفة وهي النكاية بالرئيس الأسبق حسني مبارك الذي ناصب إبراهيم العداء وحبسه في قضية شهيرة، رغم أنه كان أحد مستشاريه وأستاذ ولديه في الجامعة الأميركية، لكن أسباب انقلاب مبارك على إبراهيم لم يزل يكتنفها الغموض، لكنه أكد أن اتصالات واشنطن والإخوان كانت معروفة لنظام مبارك الذي استخدم الإخوان كفزاعة لواشنطن والأوروبيين باعتبارهم البديل الأسوأ. وهنا تجب الإشارة إلى أن إبراهيم ظل موضع تقدير كافة الإدارات الأميركية المتعاقبة، إذ يستمعون إلى رؤيته وتحليله للأمور، ليس بشأن مصر فحسب، بل ومنطقة الشرق الأوسط كلها.